تكرّس حالة الفتور التي تميّز العلاقة بين إيران من جهة، وكل من القيادة الدينية لشيعة العراق ممثلة بالمرجع علي السيستاني، وزعامة التيار الصدري ممثلة برجل الدين مقتدى الصدر من جهة مقابلة، التقارب المتسارع بين السيستاني والصدر والذي لا تستبعد مصادر عراقية أن يشمل محاولة تشكيل معسكر شيعي مضاد للمعسكر العراقي الحليف لطهران والمشكّل من أبرز الأحزاب والميليشيات الشيعية ذات النفوذ الكبير في البلاد.
وزار الصدر الذي بادر مؤخّرا إلى تغيير اسم تياره إلى “التيار الوطني الشيعي” في تعبير على عدم اقتصاره على أتباع أسرة آل الصدر، الأحد المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في منزله بمحافظة النجف.
وجاءت الزيارة، وهي الثانية في ظرف أشهر قليلة، بناء على دعوة وجهها له السيستاني لحضور مجلس عزاء الإمام الحسين.
وتعتبر تلك الدعوة امتيازا ممنوحا للصدر من قبل السيستاني المقلّ في استقبال الشخصيات السياسية والدينية العراقية بناء على موقف له من سلوك الطبقة القائدة للعراق، وهو موفق ترجعه بعض المصادر لموقف أشمل من إيران الحليفة لأبرز رموز تلك الطبقة والتي تروج معلومات عن بذلها مساعي خفية لانتزاع القيادة الدينية لشيعة العراق من النجف وتحويلها إلى قم وطهران حيث تطغى سلطة المرشد الإيراني الأعلى علي خامني وطموحاته لزعامة جميع شيعة المنطقة.
وكان الصدر قد زار النجف والتقى السيستاني في مارس الماضي، وبادر إثر الزيارة على إطلاق اسم “البلد الأمين” على المدينة المقدّسة لدى الشيعة. ويختص ذلك الاسم بمكّة أقدس المدن لدى المسلمين وفقا لما هو وارد في النص القرآني. لكن زعيم التيار الصدري لم يتردّد في “استعارته” فيما بدا أنه رسالة لإيران بأن مكانة النجف تظل فوق مكانة جميع المدن الإيرانية التي تمثل مراكز للتشيع.
ومع تقدّم السيستاني في العمر بدأت تطرح بقوّة مسألة خلافته على رأس المرجعية الشيعية في العراق.
وقالت مصادر عراقية إنّ لإيران خياراتها المدعومة من قبل السياسيين وقادة الميليشيات الذين يشكلون أذرعا محلية قوية لطهران، وهي خيارات تتقاطع حتما مع خيارات مقتدى الصدر الذي يرى أنّ له كلمته التي لا يمكن القفز عليها في هذا الموضوع بناء على مكانة أسرته في مجال التديّن الشيعي.
كما يريد الصدر من جهة أخرى أن يكون له دور مفصلي في قيادة العراق والتحكّم بسياساته استنادا إلى جماهيريته الواسعة، لكنه يصطدم هنا أيضا بعدم ثقة إيران فيه ويواجه معسكرها العراقي الذي تمكّن بالفعل من حرمانه من امتياز تشكيل الحكومة إثر الانتخابات البرلمانية الماضية رغم فوزه في تلك الانتخابات.
ويترافق تحرّك الصدر باتجاه النجف ومرجعيتها الدينية مع استعداداته للعودة إلى الحياة السياسية التي سبق له أن أعلن مقاطعته لها احتجاجا على منعه من تشكيل الحكومة.
ويوفّر التقارب مع السيستاني لزعيم التيار الوطني الشيعي غطاء دينيا ويكسبه المزيد من الشعبية داخل أوساط شيعة العراق بما يساعده على مواجهة خصومه الأقوياء بالدعم الإيراني لهم وبإمساكهم بمقدّرات الدولة العراقية التي يتبوأون أهم مواقعها القيادية.
لكنّ فوائد التقارب لن تصب في اتّجاه الصدر وحده، إذ تبدو مرجعية النجف من جهتها في حاجة إلى مكانة الرجل وجماهيريته لمواجهة أي محاولة من إيران للمساس بسلطتها الروحية وتقليصها لمصلحة المرجعية الإيرانية.
وورد في تقرير غربي نشر مؤخّرا أنّ إيران باتت تجد في تقدّم السيستاني في السنّ وعدم وجود شخصية محدّدة لخلافته فرصة في تحويل مركز القيادة الروحية للشيعة العراقيين من النجف إلى طهران وقم.
ويستطيع الإيرانيون التعويل في تحقيق ذلك على مكانتهم الكبيرة في تجربة الحكم القائمة حاليا في العراق بقيادة شخصيات ذات نفوذ كبير موالية لهم ولا يتردّد بعضها في التصريح باتّخاذ مرشدها الأعلى علي خامنئي مرجعا لها.
وتمكّن السيطرة على القيادة الدينية لشيعة العراق إيران من تحقيق مكاسب كبيرة أوّلها ضرب مكانة النجف التي تمثّل مركز نفوذ ديني منافس لطهران وقم على ذات أرضية التديّن الشيعي، والتي كثيرا ما كانت سندا لبعض الشخصيات الدينية وحتى السياسية العراقية المناهضة لإيران وسياساتها في العراق والمنطقة.
وسلّط تقرير نشرته مجلة نيولاينز الأميركية الضوء على التنافس المتصاعد على الزعامة الروحية لشيعة العراق في مرحلة ما بعد السيستاني البالغ أربعا وتسعين سنة من العمر.
وأورد محرّر التقرير سجاد جياد الباحث والمحلل السياسي العراقي نموذجا عن تمايز السيستاني عن التوجهات المذهبية والسياسية الإيرانية وعن دوره وتأثيره ليس فقط في أوساط شيعة العراق ولكن أيضا في شرائح عراقية أوسع.
ونسب للرجل دورا في منع قيام حرب أهلية في البلد سنة 2006 عندما قام تنظيم القاعدة بتفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء.
وقال إن المرجع الشيعي العراقي رفض مطالبة شيوخ العشائر والجماعات الشيعية المسلحة المقربة من إيران له بإصدار فتوى تجيز لهم التعبئة العسكرية للدفاع عن المراقد الشيعية والانتقام من السنّة. كما نجح في منع صدور مثل تلك الفتوى عن باقي المراجع الشيعية في النجف وأقنعهم بعدم الإقدام على ذلك مبينا لهم أن ذلك يعني الانسياق إلى فخ نصبه التنظيم المتشدّد.
وسياسيا يختلف نهج السيستاني بشكل كبير مع توجهات أقوى رجال الدين الشيعة في إيران والذين يؤمنون بالحكم الديني المباشر.
ولا تعتبر مساعي قمّ وطهران للسيطرة على القيادة الروحية لشيعة العراق أمرا طارئا، وإن تسارعت مؤخّرا، حيث لم تنقطع إيران عن محاولة تكثيف حضورها في النجف من خلال رعاية طلاب المعاهد الدينية والاستثمار في مشاريع البناء في المدن العراقية المقدسة جنبا إلى جنب بناء شبكة من الجماعات المسلحة ذات الولاءات السياسية والدينية لخامنئي.
ولطالما نظر الإيرانيون للسيستاني باعتباره عقبة في طريق مدّ السلطة الروحية لمرشدهم خامنئي خارج حدود بلدهم ليتحوّل إلى مرجع أوّل للشيعة في مختلف أنحاء المنطقة والعالم.
وفي مظهر عملي لمحاولة إيران التغلغل دينيا ومذهبيا في النجف استعدادا لمرحلة ما بعد السيستاني يحتفظ خامنئي بمكتب في المدينة المقدسة لدى الشيعة ويشرف ممثله في العراق مجتبى الحسيني على حملة لتجنيد المزيد من الطلاب في المدارس الدينية التابعة لإيران مع إعطاء رواتب أكبر بكثير للطلاب المنتمين لحوزة النجف.
العرب