يؤشر توالي الكشف عن وجود معامل لتصنيع المواد المخدرة داخل الأراضي العراقية على دخول قضية المخدرات في العراق منعطفا خطرا بتحوّل البلد إلى منتج ومصدّر بعد أن كان مصنفا كمعبر وموطن ترويج واستهلاك لتلك المواد القادمة من الخارج وخصوصا من سوريا وإيران المجاورتين.
ويحيل هذا التطور على النموذج السوري حيث توالى الكشف بعد سقوط نظام آل الأسد عن منظومة واسعة لتصنيع وترويج الحبوب المخدّرة تمت نسبتها لجهات مقرّبة من النظام الذي يشترك مع أحزاب وميليشيات متنفذة في العراق في الانتماء إلى المحور الإيراني.
وتؤكّد مصادر عراقية دخول تصنيع وترويج المخدّرات كعنصر أساسي في منظومة تمويل الميليشيات الشيعية المنتمية للمحور نفسه والمعروفة باعتمادها على العديد من الأساليب غير المشروعة لتلبية حاجتها المتزايدة للمال لتغطية إنفاقها الضخم على التسلّح وتأمين الرواتب لمنتسبيها وتوفير سائر احتياجاتهم.
وترجع نفس المصادر حالة التعتيم وبطء السلطات العراقية في حسم قضية معامل المخدّرات إلى نفوذ تلك الميليشيات وارتباطاتها السياسية رغم أنّ بعض الجهات أشارت منذ مدة إلى وجود تلك المعامل وطالبت بالكشف عن أصحابها.
وسبق للجنة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية في مجلس النواب العراقي أن كشفت عن ضبط أربعة معامل لتصنيع الحبوب والمواد المخدرة، مشيرة على لسان رئيسها عدنان الجحيشي إلى وجود تلك المعامل في مناطق النجف والبصرة والسماوة والسليمانية وجميعها مواطن لنفوذ أحزاب وفصائل عراقية حليفة لإيران.
وأعاد رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان علي العبادي إثارة القضية بكشفه عن تمكّن الأجهزة الأمنية مؤخرا من ضبط معامل متخصصة في تصنيع المواد المخدرة داخل العراق.
ونقلت وكالة بغداد اليوم الإخبارية عن العبادي قوله إنّ “التداعيات المترتبة على هذا الملف لا تقتصر فقط على الجوانب الأمنية، بل تمتد إلى مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية حيث يؤدي انتشار هذه المواد إلى زيادة معدلات الإدمان بين الشباب والمراهقين مما يترتب عليه ارتفاع في معدلات الجريمة بما في ذلك الجرائم العنيفة وجرائم السرقة والاعتداءات الجنسية وحتى الجرائم السوداء التي باتت تسجل ارتفاعا مقلقا مثل زنا المحارم والجرائم العائلية التي تصاحب تعاطي المواد المخدرة”.
ورغم ما تبديه السلطات الأمنية العراقية من حزم إزاء الجرائم المتعلقة بالمخدرات وما تبذله من جهود واضحة لمواجهة توسّع الظاهرة، إلاّ أنّ المعالجة الرسمية لملف معامل تصنيع المواد المخدّرة ما تزال تحاط بكثير من السرية والتعتيم اللذين يرجعهما المهتمون بالملف لضغوط شديدة مسلطة على السلطات الأمنية وحتى السياسية بسبب ضلوع جهات متنفذة في تلك “الصناعة” الناشئة في البلد.
وأكّد العبادي أن أي محاولة للكشف عن الحقيقة تتعرض لتهديدات وضغوطات كبيرة مما يؤكد أن هناك جهات نافذة تسعى إلى عرقلة جهود كشف الحقيقة.
وكان النائب محمد نوري عزيز قد ذهب حدّ القول إن تصنيع المخدّرات والاتجار بها قد دخل ضمن منظومة الاقتصاد العراقي بسبب تصدّر أحزاب مشاركة بقوة في السلطة لأنشطة التهريب والتصنيع والترويج، مستدلا بتعرّض قيادات أمنية مكلفة بمحاربة الظاهرة لاعتداءات جسدية وصلت حدّ القتل دون أن يتعرّض المعتدون إلى العقاب المناسب لجرمهم.
وبسبب تلك الضغوط تجد السلطات الأمنية نفسها مضطر لصرف جهودها في محاربة المخدّرات بعيدا عن القضايا الكبيرة مثل قضية المعامل ومحاولة التركيز على الترويج المحلي للمواد المخدرة.
وتوعدت مديرية شؤون المخدرات في وزارة الداخلية العراقية قبل أيام تجار المخدرات بحرب نوعية ضدهم تجعل من العام 2025 أشد الأعوام قساوة عليهم.
وقال المتحدث باسم المديرية حسين يوسف التميمي لوكالة الأنباء العراقية إننا “نعمل بإشراف وزير الداخلية عبدالأمير كامل الشمري مباشرة وحققنا نتائج في ملف مكافحة المخدرات بعد تولي حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لم يتحقق منذ العام 2003”.
وأشارا إلى أن “النتائج والإنجازات تمثلت بتفكيك شبكات مخدرات محلية ودولية ومصادرة كميات كبيرة من المواد المخدرة”، مضيفا “أصبح عملنا استخباريا”.
وفي سياق عملي أعلنت المديرية الثلاثاء القبض على ثلاثة تجار مخدرات في محافظتي نينوى وكركوك وضبط مئتين وثمانية كيلوغرامات من حبوب الكبتاغون بحوزتهم.
وتواترت في الآونة الأخيرة التقارير المحلية والدولية بشأن دخول ظاهرة المخدرات في العراق منعطفا خطرا على البلد والمنطقة ككل، وصولا إلى توجيه منظمة المتّحدة تحذيرا من أنّ البلاد تشهد طفرة مواد مخدّرة غير مسبوقة.
واستدعى المنحى الخطير الذي اتخذته تجارة المخدّرات واستهلاكها في العراق توظيف السلطة الدينية الواسعة للمرجع الشيعي الأعلى في البلاد علي السيستاني في محاولة الحدّ من تفاقم الظاهرة وتقليل مخاطرها على المجتمع بعد أن بلغت جهود السلطات الأمنية أقصاها في مواجهة هذا الوباء الفتّاك دون النجاح في وقف تقدّمه وانتشاره.
ونشر مكتب السيستاني في وقت سابق ما قال إنها أجوبة على أسئلة وجهت إليه حول موضوع المخدّرات، وتضمنت بعض تلك الإجابات تذكيرا بتحريم الاتجار بالمواد المخدرة واستهلاكها، كما تضمّنت تحذيرا ضمنيا للجهات النافذة المساهمة في نشر تلك المواد بالبلاد بأنّ انخراطها في تلك الأنشطة الممنوعة قانونا والمحرّمة شرعا يجعلها خارجة عن تعاليم الدين وأخلاقيات الطائفة.
وكان يُؤمل من السيستاني المعروف بتدخله في المنعطفات والأحداث الخطرة بالبلاد استخدام سلطته الروحية في إقناع شرائح واسعة من العراقيين بالابتعاد عن استهلاك المواد المخدّرة من منطلقات عقائدية ومساعدة الأجهزة الرسمية العراقية في مواجهة شبكات تهريب وترويج تلك المواد، كون بعض الجهات الضالعة في تجارة المخدّرات تمتلك نفوذا كبيرا في البلد يفوق في بعض الأحيان سلطة الدولة بحدّ ذاتها.
العرب