تجد الصين في توثيق العلاقة مع الأحزاب والفصائل الشيعية الممسكة بأهم مفاصل السلطة في العراق، مدخلا مناسبا لمدّ نفوذها الاقتصادي في البلد الذي يتوفّر على الكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة بما تحتويه أرضه من مخزونات ضخمة من مواد الطاقّة وبفعل حاجته الشديدة لتجديد بناه التحتية في مختلف المجالات، بعد أن شهدت عملية الإعمار والتنمية عموما فيه ركودا شديدا على مدى أكثر من عشريتين من الزمن.
وتجري عملية التقارب بين الصين والقوى الشيعية الحاكمة في العراق تحت أنظار إيران الحليفة لتلك القوى وبتشجيع منها وذلك نظرا لما يجمع بين بكين وطهران من علاقات وثيقة وتعاون في الكثير من المجالات، وأيضا بناء على حسابات إيران التي تقوم على محاولة إغلاق الساحة العراقية أمام منافسين صاعدين على النفوذ هناك في مقدمتهم تركيا.
وترافق الإعلان مؤخّرا عن فوز شركات صينية بصفقات استثمار عدد من حقول النفط والغاز في العراق، مع تحرّكات نشطة للسفير الصيني في البلاد “تسوي وي” وإجرائه اتصالات من العديد من المسؤولين والشخصيات بينهم قادة أحزاب وزعماء فصائل مسلّحة.
وكان قيس الخزعلي زعيم ميليشيا عصائب أهل الحقّ المقرّب من إيران والعضو البارز في الإطار التنسيقي الشيعي المشكّل لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، من بين من التقاهم السفير.
وقال الموقع الإخباري التابع للعصائب إن الخزعلي استقبل السفير الصيني في مكتبه “لبحث العلاقات الثنائية بين العراق والصين ولتعزيز التعاون الاقتصادي”.
وأضاف أنّه جرى خلال اللقاء “استعراض مستجدات الشأن المحلي والإقليمي والدولي والفرص الاستثمارية في العراق نتيجة استقرار الوضع الأمني”.
وعلى غرار إيران تفضّل الأحزاب والفصائل الشيعية في العراق دخول الصين بقوّة على خط الاستثمار في العراق، على توسّع النفوذ الاقتصادي الأميركي في البلاد، وأيضا على دخول منافسين جدد إلى الساحة، خصوصا وأنّ الولايات المتّحدة تمتلك بالفعل سلطة كبيرة على الشأن المالي للعراق باعتبارها مصدرا لعملة الدولار، وهي تستخدم تلك السلطة بالفعل في تسليط عقوبات تطال الفصائل الشيعية ومصالحها المالية، كما تطال إيران نفسها.
وجرت أبرز محاولة لإحداث نقلة نوعية في العلاقات الاقتصادية بين الصين والعراق في فترة رئاسة عادل عبدالمهدي للحكومة العراقية والذي زار بكين في سبتمبر 2019 وأشرف هناك على توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم شملت العديد من المجالات من بينها تمويل المشاريع والبنى التحتية والمواصلات والاتصالات والسكن والطاقة والأمن والتعليم وغيرها.
لكن انتفاضة شعبية عارمة لم تمهل رئيس الوزراء كثيرا حيث تفجّرت في وجهه في شهر أكتوبر من نفس العام وأجبرته على التنحي لاحقا ما تسبب في جمود بتنفيذ ما اتفق عليه مع الحكومة الصينية.
ولم تتردّد القوى الشيعية القريبة من إيران في إرجاع سبب الانتفاضة التي اندلعت بالفعل جرّاء احتقان شعبي متراكم بسبب سوء الأوضاع المعيشية وتردي الخدمات وتفشي الفقر والبطالة، إلى ما سمته مؤامرة على رئيس الحكومة بسبب تقاربه الكبير مع الصين.
وعبّر عن هذا الموقف بوضوح النائب في مجلس النواب كاظم الصيادي الذي قال آنذاك إنّ الاتفاقيات التي وقّعها عبدالمهدي مع الصين هي أحد الأسباب التي أزاحته من رئاسة الحكومة.
ومع بروز مشروع طريق التنمية المشترك بين العراق وتركيا والإمارات وقطر والذي تمّ توقيع مذكرة تفاهم بشأنه خلال الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخّرا إلى بغداد، برزت مجّددا دعوات القوى الشيعية لمنح الأفضلية للتعاون مع الصين.
ولم تمنع أهمية المشروع الذي يقوم على الربط بين مياه الخليج والأراضي التركية عبرالأراضي العراقية بخط سكة حديد وطريق سيارة من عدّة مسارات، قوى عراقية حليفة لإيران من الاعتراض عليه.
وقال أبوعلي العسكري المسؤول الأمني لكتائب حزب الله إنّ “مشروع ما يسمى طريق التنمية مازال يشكل مصدر قلق لنا”.
وأضاف في بيان نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي “يجب توفير الدلالات القاطعة والضمانات الإستراتيجية والمزيد من التطمينات قبل الشروع في تنفيذ المشروع”.
وسبق أن بنت قوى وشخصيات شيعية اعتراضاتها على المشروع بشكل صريح على مقارنته بمشروع طريق الحرير الصيني داعية الحكومة العراقية إلى الانخراط في المشروع الأخير، وذلك على الرغم من التراجع الكبير في الحديث عنه بعد أن كانت بكين قد شنّت حملة واسعة النطاق للترويج له ولدعوة الدول بما في ذلك العراق للمشاركة في تنفيذه.
وقال حسن سالم النائب عن كتلة صادقون الممثلة لميليشيا عصائب أهل الحق تحت قبة البرلمان العراقي، في وقت سابق، إنّ “القناة الجافّة” (التسمية القديمة لمشروع طريق التنمية) “يعتبر قتلا وتدميرا للتنمية في العراق من خلال منع التحاقه بمبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير”.
وعلى أرضية من الوفاق السياسي مع القوى المتحكّمة في مقاليد السلطة ببغداد وبرعاية وتشجيع من طهران، بدأت الصين تتسرّب بقوة إلى المجال الاستثماري في العراق، حيث زادت الشركات الصينية من خططها للهيمنة على النفط والغاز في البلد وهو ما تجسد في اتفاقيات جديدة أُعلن عنها قبل أيام وتخص عدة حقول في مناطق مختلفة من البلاد.
وأطلق العراق جولة تراخيص تضم تسعة وعشرين مشروعا للنفط والغاز في محاولة لتطوير مخزونات الغاز الضخمة بهدف المساعدة في توفير الكهرباء للبلاد وجذب استثمارات بمليارات الدولارات.
وتتوزع مناطق التنقيب على اثنتي عشرة محافظة في وسط وجنوب وغرب العراق، وتشمل لأول مرة منطقة استكشاف بحرية في مياه الخليج.
وفازت شركات صينية بتراخيص خمسة حقول. وقالت وزارة النفط العراقية إن مجموعة تشونغمان للنفط والغاز الطبيعي فازت بتطوير “حقل شرقي بغداد – الامتدادات الشمالية” إلى جانب حقل الفرات الأوسط الذي يمتد بين محافظتي النجف وكربلاء الجنوبيتين.
وفازت مجموعة يونايتد إنرجي الصينية باستثمار حقل الفاو في البصرة بجنوب البلاد، بينما فازت شركة تشنهوا بتطوير حقل القرنين على الحدود بين العراق والسعودية. كما فازت شركة جيو – جيد الصينية بتطوير حقل زرباطية للنفط والغاز في محافظة واسط بشرق البلاد.
ولاحظ مراقبون غياب الشركات الأميركية عن المنافسة للفوز بعقود ما يعني بحسب هؤلاء إقرارا بالعجز عن مجاراة الحضور الصيني القوي. وسبق أن حصلت الشركات الصينية على امتياز الاستئثار بحقول نفط وغاز عراقية شأنها شأن الشركات الروسية، ما يجعلهما اللاعبين الأساسيين في الميدان.
ولا يقتصر اقتحام الصين لسوق الاستثمار في العراق على مجال الطاقة، إذ يشمل جزء رئيسي آخر من الاتفاقية الإطارية بين البلدين، لبكين ببناء مصانع في جميع أنحاء البلاد، مع ما يتبع ذلك من بنية تحتية داعمة. كما يشمل ذلك – وهذا هو العامل الأهم- خطوط السكك الحديد التابعة لمبادرة الحزام والطريق التي يشرف عليها موظفو الشركات الصينية الموجودة في العراق.
ونظرا إلى حجم البنية التحتية المخطط لها ونطاق تطويرها المحتمل، سيكون تواجد رجال الأمن الصينيين مكثفا في المشاريع الرئيسية في جميع أنحاء العراق، بحسب ما صرح به مصدر عراقي لموقع أويل برايس.
ومما لا شكّ فيه أنّه يصعب على أي طرف أن يسجل أي حضور أمني له في العراق دون تنسيق مع الميليشيات الكثيرة والناشطة بقوة في البلد والمرتبط معظمها بالحرس الثوري الإيراني، ويفسّر ذلك حرص بكين على إقامة علاقات ودية مع تلك الفصائل وهو عمل موكول على ما يبدو للسفير “تسوي وي” وقد شرع فيه بالفعل من خلال اتصالاته بقادتها وفي مقدمتهم قيس الخزعلي.