تتدرّج قضية ما بات يُعرف في العراق بسرقة القرن المتهم فيها رجل الأعمال نور زهير الملاحق بالاستيلاء على ما يصل إلى 2.5 مليار دولار من أموال الأمانات الضريبية، نحو التحوّل إلى فضيحة للقضاء العراقي الذي لم يسلم على مدى العقدين الأخيرين من شبهات الاختراق من قبل السياسيين والتورّط في صراعاتهم والخضوع لأكثرهم نفوذا وصولا إلى اتّهام بعض أعمدته بالضلوع في الفساد والتستّر على الفاسدين ومساعدتهم على الإفلات من العقاب.
ولم يكن ما صرّح به حيدر حنون رئيس هيئة النزاهة العراقية بعيدا عن هذه الشبهة عندما اتّهم أحد القضاة بالتلاعب في القضية المذكورة التي قال إنّ نطاقها يتجاوز بكثير الأمانات الضريبية وإنّ حجم الأموال المسروقة في نطاقها يفوق بكثير المبلغ المعلن عنه، ملمّحا إلى محاولات للتستّر على الجوانب الأخطر في القضية وعلى المتورّطين الحقيقيين فيها والذين قد لا يكون رجل الأعمال سوى مجرّد “عربة” لنقل الأموال التي استولوا عليها.
وينتمي حنون نفسه إلى سلك القضاء حيث عمل قبل أن يرأس هيئة النزاهة المستقلة إداريا وماليا والخاضعة لرقابة البرلمان رئيسا لمحكمة الاستئناف بمحافظة ميسان جنوبي العراق، كما حظي بعضوية مجلس القضاء الأعلى. ولم تكن ردود فعل السياسيين على تصريحات رئيس الهيئة، بدورها، بعيدة عن التداخل بين القضاء والسياسة في العراق حيث سارع عدد من الوجوه السياسية إلى التموقع إلى جانب حنون أو ضدّه بحسب توجهاتهم ومصالحهم.
ولم يتأخر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عن الإدلاء بدلوه في القضية من موقع المدافع عن القضاء وسمعته، وهو المعروف أصلا بعلاقاته القوية بكبار رموز المؤسسة القضائية والتي يقول مطلّعون على الشأن العراقي إن تلك العلاقات تمثّل إحدى نقاط قوّته التي مكنته من الاحتفاظ بمكانته في المشهد السياسي وبنفوذه داخل أجهزة الدولة.
وحذّر المالكي الذي يتزعم ائتلاف دولة القانون “من أن التجاوز على القضاء ستكون له تداعيات أخطر من الإرهاب على النظام السياسي”. وأعرب المالكي في كلمة مصورة عن ثقته الكاملة بالقضاء العراقي متمنيا أن “تستمر جهود القضاء في عملية ضبط كل الأمور التي تحتاج إلى قرار قضائي يحكم بالفصل بين القضايا”.
وكانت العديد من الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية العراقية قد طالبت بمقاضاة المالكي على مجمل حصيلة ولايتيه على رأس الحكومة بين سنتي 2006 و2014 بسبب الهدر الكبير للمال العام الذي شهدتاه وأيضا بسبب الخلل الأمني الفادح الذي أدى إلى احتلال تنظيم داعش لأجزاء واسعة من الأراضي العراقية وما ترتّب على ذلك من خسائر بشرية ومادية مهولة ومآس إنسانية غامرة.
وقال حنون في مؤتمر صحفي عقده بأربيل عاصمة إقليم كوردستان العراق إنّ زهير المتهم الرئيسي بسرقة أموال الأمانات الضريبية قام بتزوير 114 صكا ماليا، وعليه أن يعاقب بـ114 حكما، مؤكّدا أن جريمته تشمل أيضا الاستيلاء على أرض تابعة للدولة في شط العرب جنوبي العراق.
وجه رئيس هيئة النزاهة اتّهاما مباشرا للقاضي ضياء جعفر الذي يتولى محاكمة زهير، قائلا إنّ جعفر “يلاحقني وأصدر أمر إلقاء قبض بحقي، مع العلم بأن القضية كانت في البصرة، ونقلت إلى بغداد لدى القاضي جعفر، لكن الملفات اختفت عنده”. كما أكّد استناده إلى “معلومات موثقة بالأدلة”، واصفا نور زهير بأنّه “عبارة عن العربة التي حُملت فيها الأموال”.
ولم تخل تلك التصريحات من سند واقعي أقلّه أن زهير على الرغم من خطورة القضية المتعلقة به وحجم الأموال المتهم باختلاسها أطلق سراحه وسمح له بالمغادرة إلى خارج البلاد قبل أن تُحسم القضية وتُسترد الأموال ويعاقب الجناة. وكان من أصدر قرار الإفراج عنه بكفالة هو القاضي جعفر.
ونفى رئيس الهيئة التهم الموجّهة إليه بالحصول على أراض دون وجه قانوني مبينا أنّ “القضاة والوزراء تسلموا قطع أرض بمساحات 600 متر مربع من الحكومة السابقة (برئاسة مصطفى الكاظمي) لضمان الولاء”.
وكان حنون على درجة عالية من التشنج عندما قال إنّ “شخصا بغيضا وبائسا سرق فيديو من هاتف أحد القضاة وأراد ابتزازي به”، في إشارة إلى تسريب صوتي تداولته منصات رقمية قالت إنه لحنون وهو يتهم قضاة بالتستر على سرقة القرن. وبنفس الدرجة من التوتر قال حنون إنّه يفضّل أن يودع السجن بشرف ولا يتستر على المتهمين في سرقة القرن، واصفا الهيئة التي يرأسها بالمستضعفة، ومضيفا “لا يجوز للقاضي ضياء جعفر استخدام سلطته ضدنا”.
وبدا الرجل واثقا من صحة موقفه قائلا إنّ “التقصير في قضية نور زهير أمر بيني وبين القاضي جعفر، وأطالب مجلس النواب باستجواب كلينا في جلسة علنية”. كما طالب نواب المجلس بسؤاله “لماذا فُتحت قضية واحدة فقط بحق زهير رغم وجود جرائم أخرى”.
ومثلت تلك التصريحات بداية فورة جدل سياسي وإعلامي حادّ في العراق يُتوقّع أن يقود إلى المزيد من تسليط الضوء على قضية السرقة الضخمة، دون أن يعني ذلك بالضرورة حسمها بالطريقة الملائمة وإنصاف الدولة من المعتدين على أموالها، إذ إنّ للقائمين على النظام الحالي في العراق تجارب كبيرة سابقة في لملمة القضايا على نحو يبقيها بعيدا عن ساحتهم، وإن تطلب الأمر التضحية برؤوس صغيرة وتقديمها أكباش فداء لحيتان الفساد الأكبر والأوسع نفوذا.
وتفاعلت دوائر سياسية وبرلمانية مع تصريحات حنون وذلك في اتجاهات متعددة. وصنّف المالكي تصريحات حنون ضمن التعدّي على حرمة مؤسسات الدولة، قائلا “إذا صار التجاوز على صلاحية القضاء.. أو على السلطة التشريعية أو التنفيذية، فهذه بداية خطيرة لتداعيات ستكون أخطر حتى من تداعيات العمليات الإرهابية التي تستهدف النظام”.
واعتبر أن “الذي يستهدف بنية الدولة، وهي السلطات الثلاث يكون قد هدد أساسيات النظام”، رافضا تدخل أي سلطة في صلاحيات السلطة الأخرى، وذلك في ردّ ضمني على دعوة رئيس هيئة النزاهة للبرلمان إلى التدخل في قضية سرقة القرن.
ولم يكن علي الفتلاوي، القيادي في تحالف الفتح الممثل السياسي لميليشيات الحشد الشعبي، أقل وضوحا في التمترس ضدّ رئيس هيئة النزاهة موجها نقده للطريقة التي ظهر بها في مؤتمره الصحفي بأربيل بغض النظر عن مدى صحة الاتهامات التي وجهها خلاله.
وقال الفتلاوي لوسائل إعلام محلية إنّ “ضرب هرمين أساسيين في الدولة؛ هيئة النزاهة والقضاء يجب أن يكون بموقف حقيقي وبأدلة رسمية دون اللجوء إلى وسائل الإعلام”، داعيا “الحكومة والبرلمان إلى اتخاذ موقف جدي وإجراءات حقيقية تجاه أي مسمى”.
ودعا النائب حيدر السلامي إلى عقد جلسة علنية لاستضافة رئيس هيئة النزاهة. وقال في تصريحات صحفية إنّ “الهيئة مؤسسة مهمة معنية بملفات كثيرة تتعلق بمكافحة الفساد وكشف خيوط عمليات نهب الأموال وما طرحه رئيسها في مؤتمر صحفي حمل نقاطا مهمة تتعلق بالضغوط وخفايا بعض الملفات والتدخلات ووتيرة إنجازها”، مشدّدا على “أنه لا يمكن غض الطرف عما يجري من تعدّ على الأموال العامة ونهب خيرات البلاد”.
العرب