من المنتظر أن تواجه العلاقة بين العراق والولايات المتحدة اختبارا حاسما في ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع تحول ديناميكيات القوة الإقليمية بسرعة.
وظهرت علامة مبكرة على هذا التحدي عندما قرر البنك المركزي العراقي، بناء على طلبات من وزارة الخزانة الأميركية والاحتياطي الفيدرالي، منع خمسة بنوك محلية من التعامل بالدولار.
وتبدو بغداد مدركة لهذه التحديات الناشئة، خاصة مع تشكيل فريق السياسة الخارجية والأمن القومي إثر صعود ترامب.
وأظهر العراق مخاوفه بالالتزام بالمطالب الأميركية الرئيسية، وكان الحظر المصرفي الإجراء الأخير في هذا الإطار. كما يعتبر النائب العراقي البارز الموالي لإيران عدي عواد أن التعديل الأخير الذي أجراه البرلمان العراقي على قانون الموازنة، والذي يضبط رسوم الإنتاج والنقل لشركات النفط العالمية، يدل أيضا على محاولة تلبية التوقعات الأميركية.
ويرى محمد صالح، زميل أقدم غير مقيم في معهد أبحاث السياسة الخارجية بفيلادلفيا، في تقرير نشره موقع “ذا نيو ريجن” الأميركي أنه مع ذلك، واستنادا إلى التصريحات السابقة والحالية الصادرة عن المسؤولين الأميركيين، قد تكون هذه الإجراءات مجرد بداية.
وتشير مذكرة أصدرها ترامب في 4 فبراير حول فرض أقصى قدر من الضغط على إيران على وجه التحديد إلى منع طهران من استغلال النظام المالي في العراق. وهدد عضو الكونغرس الجمهوري جو ويلسون علنا بفرض عقوبات وتصنيفات إرهابية ضد الكيانات المتحالفة مع إيران في العراق، بما في ذلك كبار المسؤولين القضائيين والجماعات السياسية المسلحة مثل منظمة بدر ومصرف الرافدين الحكومي.
وتشترك العديد من الشخصيات الرئيسية داخل إدارة ترامب في هذا الموقف المتشدد. وأكد وزير الخارجية ماركو روبيو، خلال زيارته إلى القدس في 16 فبراير، أن الميليشيات التي تدعمها إيران تعمل على زعزعة استقرار العراق. ونشر كذلك تكهنات بشأن الجهود الأميركية المحتملة إما لتفكيك الفصائل المسلحة الموالية لإيران أو إخضاعها لسيطرة الحكومة بشكل أكبر.
وعارض جويل ريبورن، مرشح روبيو لمنصب مساعد وزير الخارجية لسياسة الشرق الأدنى، باستمرار دور إيران في العراق ودعا إلى دعم أميركي قوي لاستقرار إقليم كردستان ووضعه الدستوري. وكان مستشار الأمن القومي الأميركي مايك والتز صريحا بشأن ما وصفه بـ”شبكة السيطرة” الإيرانية في العراق، وخاصة من خلال القضاء.
ويُنظر إلى فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي، على أنه شخصية محورية في إستراتيجية إيران لتحويل العراق إلى دولة موالية.
ويظل من غير المؤكد ما إذا كان هؤلاء المسؤولون سيتصرفون بناءً على مواقفهم المعلنة، أو ما إذا كانت واشنطن متمتعة بالقدرة السياسية على منح الأولوية للعراق مع تواصل الأزمات العالمية الأخرى. كما أن حلفاء الولايات المتحدة في العراق، وخاصة الأكراد، يشعرون بالقلق من التداعيات المحتملة إذا تحولت مثل هذه التصريحات إلى سياسة.
ويخشون من أن النهج الواسع والعشوائي الذي يجمع حلفاء الولايات المتحدة وخصومها تحت سياسة “العراق الموحد” الشاملة يمكن أن يؤثر على كامل البلاد وليس فقط على الأهداف المقصودة.
ومن الواضح أن الثقة في بغداد داخل الإدارة الأميركية الحالية تراجعت عمّا كانت عليه في ظل القيادة الديمقراطية السابقة.
وتنظر وجهة النظر السائدة في واشنطن إلى العراق من زاوية علاقاته مع إيران. ويتحوّل التركيز بذلك إلى إبعاد العراق عن النفوذ الإيراني، وهو الهدف الذي عززته الانتكاسات الأخيرة التي تكبدتها إيران مع حلفائها الإقليميين في غزة ولبنان وسوريا.
ويبقى الوضع في العراق معقدا بشكل استثنائي. ويعتمد الائتلاف الشيعي الحاكم في بغداد تقليديا على إيران للحصول على الدعم السياسي.
وعلى الرغم من أن المصالح لا تتوافق دائما، إلا أن صعود الهيمنة السياسية الشيعية في العراق (خاصة في ما يتعلق بالفصائل الموالية لإيران) قد توازى مع صعود إيران الإقليمي إلى حد كبير واستفاد منه.
وتشير هذه الديناميكيات إلى أن العراق يقف عند لحظة محورية ويحتاج إلى تعديل المسار بشكل عاجل.
وتجد بغداد نفسها في واحدة من أضعف نقاطها في العقد الماضي، عالقة بين تحالفها الرسمي مع الولايات المتحدة ونفوذ الميليشيات المدعومة من إيران، حيث يعد بعضها رسميا جزءا من جهاز الأمن العراقي تحت قوات الحشد الشعبي.
ومع ذلك، وخلافا للسنوات السابقة، يتضاءل مجال المناورة بين هذين القطبين بسرعة. ومن غير المرجح أن تقبل واشنطن السيناريوهات التي تستمر فيها الجماعات المتحالفة مع “محور المقاومة” الإيراني في تلقي التمويل والأسلحة من الحكومة العراقية مع الحفاظ على العلاقات مع طهران، والأسوأ من ذلك، شن هجمات على الولايات المتحدة أو حلفائها، على الرغم من التسامح الأكبر مع تضرر الحلفاء. كما ينفد الصبر على إساءة استخدام النظام المالي العراقي والشبكات التجارية لمساعدة إيران. ويجب على بغداد أن تجد طريقة لحل هذه التناقضات بتبني إجراءات ملموسة وفعالة.
وتشمل العناصر الحيوية الأخرى لتصحيح مسار العراق إنشاء إطار حكم أكثر توازنا وشمولا.
وينص الدستور العراقي لسنة 2005 على نظام فيدرالي يقوم على تقاسم السلطة بين العرب الشيعة والكورد والعرب السنة. ولم يتحقق هذا التوازن أبدا، بل تدهور أكثر منذ 2017، مع تضاؤل النفوذ الكردي في صنع القرار الفيدرالي وانبساط هيمنة شيعية شبه كاملة في العراق. وكان غياب التوازن الداخلي في صنع القرار هو أحد الأسباب التي تثير حفيظة واشنطن.
ويستلزم ضمان استقرار العراق وسلامه وازدهاره تجديد الالتزام بتقاسم السلطة واحترام الحكم الذاتي المحلي.
وتبقى كل هذه التوازنات ضرورية للوحدة الداخلية ومهمة لوضع العراق كلاعب إقليمي بنّاء وليس مصدرا لعدم الاستقرار. ويجب أن تدرك الفصائل الشيعية الحاكمة خطورة اللحظة الراهنة وأن تتخذ إجراءات لمنع حدوث أزمات جديدة.
ويتزايد وعي بغداد بأن العراق على أبواب مرحلة خطيرة. وتكشف المحادثات مع مصادر في العراق وواشنطن عن شعور ملموس بالقلق (وحتى الذعر) بين صناع القرار في بغداد.
وقد يدفع هذا العراق إلى إعادة النظر في خطط الانسحاب المرحلي للقوات الأميركية المقرر في أواخر 2025 ومطلع 2026، وهو جدول زمني أمكن الاتفاق عليه بين واشنطن وبغداد.
ومع تصاعد الضغوط الإقليمية والمحلية، ومواجهة طهران لضغوط غير مسبوقة، قد يكون الوجود المستمر للقوات الأميركية أمرا لا غنى عنه في تحقيق الاستقرار في العراق.
وقد أبرز رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني هذه النقطة في مقابلة جمعته مع منصة بلومبيرغ خلال مؤتمر ميونخ الأمني في 16 فبراير، حيث أكد على أهمية استمرار الدعم العسكري الأميركي.
وسيتعين على العراق أن يتنقل في بيئة متزايدة التعقيد خلال الأشهر المقبلة. فهل سيتمكن من تحقيق توازن مستدام بين علاقاته مع الولايات المتحدة وإيران، أم سينسحب إلى مدار أحدهما على حساب الآخر؟
العرب