مع تزايد جرأة أنقرة وتراجع طهران بعد سقوط نظام بشار الأسد، يتصاعد الصراع على النفوذ بين الجارتين المتنافستين منذ زمن طويل في كل من سوريا والعراق، وقد يمتد إلى ما وراء حدودهما.
واندلعت أحدث موجة توترات بسبب انتقادات إيرانية لسياسة تركيا تجاه سوريا عقب دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان لمقاتليه إلى نزع سلاحهم. وردا على ذلك، حذر وزير الخارجية التركي هكان فيدان إيران من التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، مشيرا إلى أن مثل هذه الإجراءات قد تأتي بنتائج عكسية.
وقال فيدان “من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة”، في تهديد نادر ومبطن موجه إلى بلد لطالما خشيت تركيا من تأجيج النزعات الانفصالية بين أقليته التركية الكبيرة، التي تشكل أكثر من 20 في المئة من السكان.
وأضعفت الحملة العسكرية الإسرائيلية التي أعقبت هجمات حماس في السابع من أكتوبر 2023 إيران ووكلائها بشكل كبير. كما وجّه إسقاط نظام الأسد على يد جماعة صديقة لأنقرة ضربة أخرى لنفوذ طهران الإقليمي. كما يأتي ذلك في وقت يتراجع فيه اعتماد تركيا على جارتها الشرقية في مجال الطاقة.
ومنذ أن شددت واشنطن العقوبات على طهران عقب قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018، اتخذت أنقرة خطوات لتنويع مصادرها من الطاقة.
وتقول غونول تول، وهي زميلة بارزة في معهد الشرق الأوسط، في تقرير نشره المعهد أن في هذا السياق الإقليمي الجديد، تعتقد تركيا أن لها اليد العليا في العلاقات، وهو تحول تسعى إلى استغلاله لتحقيق أهداف سياستها الخارجية.
وفي سوريا، ترغب أنقرة في رؤية دولة مستقرة تسمح لها بتوطيد علاقات اقتصادية وسياسية ودفاعية وثيقة. كما تحتل سوريا مكانة فريدة في جهود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنزع سلاح حزب العمال الكردستاني، ويأمل المسؤولون الأتراك أن تُمكّنهم ديناميكيات ما بعد الأسد من طي صفحة العلاقات مع واشنطن.
وتريد تركيا الاستفادة من ضعف إيران لتعزيز أهدافها في مجالات الطاقة والتجارة والتواصل في العراق. وقد اتخذت أنقرة بالفعل خطوات لتوطيد علاقاتها مع بغداد، وتأمل أن يُعزز الانسحاب المرتقب للقوات الأميركية من العراق موقفها هناك.
رد إيران
إنّ تصور تركيا لضعف إيران هو بالضبط ما تُصرّ طهران على تبديده. وفي تعبير عن الإحباط، انتقد علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي للشؤون الخارجية، فيدان علنا. ولم يكن تدخل ولايتي مجرد خطاب، بل أشار إلى استعداد طهران لمواجهة أنقرة، وسرعان ما تعزز بحملة إعلامية منسقة تحدد السبل المحتملة التي يمكن لإيران من خلالها الضغط على تركيا. وأحد هذه السبل هي إثارة المشاكل داخل تركيا.
وقد أصدرت وسائل الإعلام التابعة للدولة الإيرانية تحذيرات صريحة من أن أي محاولة تركية لزعزعة استقرار إيران من خلال دعم عناصر معادية لطهران من بين الأقلية التركية الكبيرة في البلاد ستُقابل بردٍّ مماثل. وقد تُفاقم هذه الخطوة من المخاطر التي تواجهها أنقرة بشكل كبير، نظرا لضعفها الداخلي إزاء الاضطرابات بين الأقليات.
ولأشهر، حتى قبل سقوط الأسد، حذّر عدد متزايد من المحللين في طهران من حنين أنقرة إلى ماضيها العثماني الإمبراطوري. الآن، يُردد المسؤولون الإيرانيون هذه المخاوف علنا، ويتخذون موقفا هجوميا، متهمين تركيا بتاريخها من التدخل في الشؤون العرقية – الإيرانية. ويشمل ذلك دعما مزعوما لخلايا انفصالية في المحافظات الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية، بالإضافة إلى تمويل عملية إعلامية جديدة باللغة الفارسية.
وتعتبر طهران هذا محاولة من أنقرة لتوسيع نفوذها الناعم داخل إيران، في ظل تكثيف تركيا لهذه الجهود في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بل إن مصادر إيرانية مقربة من الحرس الثوري زعمت أن المخابرات التركية تخطط لنشر مسلحين سنة متطرفين مناهضين لإيران لاستهداف المصالح الإيرانية، على الرغم من عدم وجود أي مؤشرات على أي تحركات مهمة على هذا الصعيد حتى الآن.
وتشير وجهات النظر الإيرانية بشأن إستراتيجية تركيا إلى أن أنقرة على الرغم من أنها قد لا تسعى إلى صراع مباشر مع طهران، إلا أنها ستستفيد بسهولة من إضعاف إيران على يد إسرائيل أو الولايات المتحدة. ومن وجهة نظرهم، فإن مثل هذا السيناريو من شأنه أن يُمهد الطريق أمام تركيا لتأكيد نفوذ إقليمي أكبر على حساب إيران.
وتهدف حملة طهران الإعلامية المدروسة إلى الإيحاء بامتلاكها نفوذا على أنقرة، مسلطة الضوء على هشاشة وضع الأقليات في تركيا، وإمكانية إيران في إثارة الاضطرابات بين هذه الأقليات، وخاصة العلويين الأتراك، الذين يشكلون ما بين 10 و20 في المئة من السكان، والأكراد، الذين يشكلون ما بين 15 و20 في المئة.
وبغض النظر عن قدرة طهران الفعلية على تحريض الأقليات داخل تركيا، فإن هذا الخطاب يبرز عزم إيران على إثبات قدرتها على الرد إذا ما مارست أنقرة المزيد من الضغوط. تعدّ سوريا ورقة أخرى في يد إيران، حيث لا يزال بإمكان طهران اتخاذ إجراءات قد تفسد خطط أنقرة، مثل إثارة المعارضة للحكومة المؤقتة الجديدة أو دعم الأكراد السوريين، مما يعقّد المفاوضات مع دمشق.
وتآكل موقف إيران في سوريا ما بعد الأسد بشكل كبير، ولا تزال خطواتها التالية غير مؤكدة. ويرسل المسؤولون الإيرانيون إشارات متضاربة حول ما إذا كانت طهران تنوي إعادة ترسيخ وجودها في سوريا.
وفي حين أدان بعض كبار قادة الحرس الثوري نظام الأسد السابق ووصفوه بالفاسد وغير الجدير بالدعم الإيراني، اتخذ خامنئي موقفا معاكسا، مبرّرا دعم طهران السابق، بل إنه ألمح إلى أن الحكومة الانتقالية في سوريا مؤقتة فحسب، وحثّ الشباب السوري على “استعادة” بلادهم، ربما في إشارة إلى طموحات إيران طويلة الأمد لاستعادة موطئ قدمها. وبالنسبة لأنقرة، تمثّل هذه الإشارات الإيرانية تحديا مباشرا لطموحاتها في سوريا ما بعد الأسد.
ويبدو أن أنقرة تدرك ما يمكن أن تفعله طهران لعرقلة أهدافها. ولم يُلق المسؤولون الأتراك باللوم مباشرة على طهران، لكنهم ألمحوا إلى أن الاشتباكات الأخيرة التي أودت بحياة العشرات من العلويين في سوريا كانت “هجوما طائفيا” على سياسات تركيا، في تلميح مبطّن إلى أن طهران تقف وراء الفوضى.
ويهدد تعاون طهران المحتمل مع الأكراد السوريين بتعقيد المحادثات التي أطلقتها الحكومة التركية مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان. من وجهة نظر أنقرة، إذا غرقت سوريا في الفوضى، فقد تقرر الولايات المتحدة إبقاء قواتها في البلاد والحفاظ على شراكتها مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
ويمكن لإيران أن تُصعّب الأمور على أنقرة في العراق أيضا. وتريد تركيا بناء روابط تجارية وطاقية أوثق، وتأمل أن يسهم مشروع طريق التنمية، وهو
ممرّ طريق سريع وسكك حديدية يمتد من البصرة إلى ميناء مرسين التركي، في تعزيز دور العراق في فلكها. ولكي ينجح هذا، يحتاج العراق إلى ترتيب وضعه السياسي أولا، إلا أن التوترات التركية – الإيرانية تشكّل خطرا كبيرا على هذه الجهود. ولا تزال إيران تتمتع بنفوذ سياسي قوي في بغداد، بينما أصبحت تركيا الشريك الاقتصادي الأبرز للعراق.
وتطالب تركيا والولايات المتحدة بغداد باتخاذ خطوات لدحر النفوذ الإيراني، لكن التخلي عن العراق في وقت يكون فيه نفوذها الإقليمي في أضعف حالاته ليس بالأمر السهل على طهران. وكل هذه الديناميكيات تجعل العراق عرضة للتنافس المتزايد بين أنقرة وطهران.
حرب أم شيء آخر
يعتقد المسؤولون الإيرانيون أن هناك فرصة لا تزال سانحة لتهدئة التوتر مع تركيا ومنع تدهور العلاقات بشكل كامل. وينظرون إلى موقف تركيا الأخير على أنه محاولة لثني طهران عن دعم الأكراد السوريين، وهي جماعة تعتبرها أنقرة تهديدا مباشرا لطموحاتها الإقليمية.
وفي ظل التحولات الأخيرة في الديناميكيات الإقليمية وعودة حملة “الضغط الأقصى” التي يشنها ترامب، لا خيار أمام طهران سوى الانخراط في عملية توازن دقيقة. فبينما تشعر طهران بأنها مضطرة إلى الرد على أنقرة، إلا أنها في الواقع لا تملك خيارا سوى إعطاء الأولوية لصراعها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مع السعي لما تزعم أنه جهد حقيقي لتهدئة التوتر في المنطقة مع الدول المجاورة.
ومع ذلك، فإن انتقادات المسؤولين الأتراك الأكثر صراحة للأفعال الإيرانية تشير إلى المزاج الجديد في أنقرة: تركيا في وضع أقوى إقليميا وعالميا. ولا ترغب أنقرة في صراع مع طهران، لكن يبدو أنها لا تمانع في ذلك إذا ما دفعت طهران نحوه. لكن الحقيقة هي أنه على الرغم من ضعف موقف إيران، فإن طهران لا تزال تملك أوراقا لتلعبها ضد أنقرة.
ولن تخوض إيران وتركيا حربا، لكن تنافسهما الإقليمي، الذي بلغ أشده خلال الحرب الأهلية السورية، قد يتصاعد بسرعة ويمتد إلى جبهات جديدة.
وهناك بالفعل دلائل على أن تنافسهما على النفوذ في جنوب القوقاز يمتد إلى آسيا الوسطى وحتى أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان. وقد يحدث الشيء نفسه في البحر الأحمر والقرن الأفريقي وبين دول الخليج، حيث يدير القادة العرب مصالحهم بعناية ضد كل من طهران وأنقرة.
وفي الوقت الحالي، فإن أسوأ سيناريو هو تصعيد المنافسة بالوكالة بين إيران وتركيا على نطاق أوسع. وسيمثل ذلك عودة خطيرة إلى التنافس الصفري الذي عصف بالمنطقة بعد الربيع العربي، وهو فصل كانت معظم القوى الإقليمية تأمل في طيه.
العرب