في ظل مراجعة المساعدات الأمنية الأميركية للعراق، تسعى بغداد إلى تقييم التأثير المحتمل للتجميد الممتد لهذه المساعدات على أمنها القومي. ويرى الكاتب العراقي مهند فارس، في تقرير نشره منتدى “فكرة” التابع لمعهد واشنطن، أن تجميد المساعدات الأمنية الأميركية يضع النخبة السياسية العراقية أمام خيارين: إما القتال من أجل استمرار التمويل الأمني على حساب علاقتها مع إيران، أو السماح بانقضاء المساعدة الأمنية الأميركية دون اعتراض كبير، مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات على الأمن القومي.
وظل الدعم الأميركي للقوات الأمنية العراقية، عاملاً مهماً في تعزيز الأمن والاستقرار في العراق، ليس بسبب عجز القوات العراقية عن أداء مهامها، بل نظرا لأهمية جوانب الدعم الذي تقدمه واشنطن لها في عدة مجالات حيوية، بما في ذلك التدريب العسكري، وتوفير الأسلحة والمعدات، وتقديم المعلومات الاستخباراتية التي تسهم في مكافحة الجماعات المسلحة مثل تنظيم داعش.
وبشكل عام، تنظر الحكومة العراقية إلى هذا الدعم على أنه ضرورة لتحسين قدرات الجيش العراقي، لكن هذا الدعم لا يخلو من التحديات والتوترات، خاصة في ما يتعلق بسيادة العراق ووجود القوات الأجنبية على أراضيه.
وفي بعض الحالات، يسود القلق من أن يؤدي استمرار هذا الدعم إلى تعزيز النفوذ الأميركي في الشؤون الداخلية للعراق. وتُعد المطالبة بخروج القوات الأجنبية، بما في ذلك قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، جزءاً لا يتجزأ من استعادة السيادة الوطنية الكاملة كما هو مُعلن، إضافة إلى دعوات أخرى مرتبطة بالرفض الإيراني لهذا الوجود.
ومع ذلك، فإن عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية ومراجعة إدارته لأولويات التمويل، بما في ذلك تعليق المساعدات الأمنية المقدمة للعراق، تعيدان تشكيل النقاش في بغداد بشأن مستقبل العلاقة الأمنية بين البلدين وتأثيراتها على الأمن القومي العراقي.
وتُعد الولايات المتحدة الأميركية أحد أبرز الشركاء الرئيسيين في دعم القوات الأمنية العراقية، عبر سلسلة من البرامج و المساعدات التي تشمل التدريب، والتجهيز، والتمويل، والمعلومات الاستخباراتية التي لعبت دورا مهما في تعزيز قدرات القوات الأمنية في مواجهة التهديدات الإرهابية.
ويندرج معظم هذا الدعم ضمن بنود الاتفاقية الأمنية المبرمة بين بغداد وواشنطن منذ عام 2009، إبان تولّي نوري المالكي رئاسة الوزراء، حيث تنظم هذه الاتفاقية طبيعة وجود القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي وأنشطتها في العراق.
ووفقاً للتقارير الرسمية، قدمت الولايات المتحدة ما يقرب من 13.8 مليار دولار كتمويل للعراق في الفترة من 2015–2023. وبحسب أحدث البيانات المتاحة لهذا العام، قُدرت هذه المساعدات في عام 2023، بحوالي 430 مليون دولار، حيث تضمن هذا الدعم مجموعة من البرامج لتعزيز القدرات العسكرية العراقية.
وعلى سبيل المثال، بلغت قيمة المساعدات التي قُدمت عبر برنامج المساعدات العسكرية الأجنبية والمخصص لشراء المعدات العسكرية والأسلحة، مثل الطائرات والمدافع والدبابات والمركبات المدرعة، نحو 250 مليون دولار ، ما مكن العراق من شراء معدات عسكرية أساسية، من بينها الطائرات المقاتلة من طراز إف-16 كما قدّمت الولايات المتحدة تمويلاً بقيمة 21.93 مليون دولار ضمن برنامج إزالة بقايا المتفجرات، بالإضافة إلى دعم هذا المبلغ بـ7.515 مليون دولار لتدريب القوات العراقية على عمليات الاستطلاع وإزالة الألغام والمتفجرات. ومع ذلك، لا تزال العديد من هذه المساعدات السابقة معلقة حالياً رهن مراجعة الإدارة الحالية.
ولا يقتصر هذا الدعم على الجانب المالي فحسب، فقد طورت الولايات المتحدة برامج موسعة لتدريب أكثر من 20 ألف جندي وعنصر أمني عراقي في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية، مثل تكتيكات مكافحة الإرهاب، والتقنيات الاستخبارية، وعمليات الرصد، والاستطلاع.
وتقدم الولايات المتحدة دعما مستمرا للقوات الأمنية العراقية لأسباب إستراتيجية وسياسية متعددة. فمن ناحية، يعود ذلك إلى الطلب الذي قدّمته الحكومة العراقية، بقيادة رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، في يونيو عام 2014، إلى التحالف الدولي للحصول على المساعدة العسكرية في مواجهة تنظيم داعش، بعد سيطرته على مدن عراقية كبيرة. وقد ترافقت تلك المساعدات الأمنية، التي شملت إمدادات الأسلحة والذخيرة والدعم اللوجستي، مع عمليات عسكرية مباشرة، من بينها الغارات الجوية على مواقع تنظيم داعش.
وعلى الرغم من هزيمة التنظيم، لا تزال خلاياه النشطة تشن عملياتها ضد القوات الأمنية خصوصا في المناطق النائية وبعض المناطق المحاذية للمُدن الرئيسية مثل مناطق حزام بغداد، ومحيط محافظتي ديالى والأنبار، وفي مناطق جبال حمرين.
ومن جانبها، اعتبرت الولايات المتحدة هذه المساعدات تشكل جزءا من إستراتيجيتها الأوسع في الشرق الأوسط، مؤكدة أن استقرار وقوة قوات الأمن العراقية يسهمان في حماية مصالحها ومنع انتشار النفوذ الإيراني والجماعات الإرهابية في المنطقة. كما تسعى الولايات المتحدة إلى إبقاء القوات الأمنية بعيدة عن تأثيرات السياسة الإيرانية في المنطقة، أو تحولها إلى أداة في يد الجماعات المسلحة المحلية التي تعمل خارج إطار الدولة، فضلا عن منع تحول الجيش العراقي إلى قوة موازية لصالح الفصائل الموالية لإيران.
ولا يزال من غير الواضح أي من هذه الاعتبارات ستحتفظ بها الإدارة الحالية، وخصوصا أن تعليق المساعدات الأمنية للعراق، ومساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، تأتي ضمن جهود الرئيس الأميركي لإعادة تقييم إستراتيجية بلاده العسكرية في الشرق الأوسط ومستوى الإنفاق على المساعدات الخارجية.
وتعتبر بغداد بشكل عام أن التعليق الحالي للمساعدات الأمنية يعكس التوترات السياسية الداخلية في العراق وتأثيرها على قوات الأمن. ومن المنظور الأميركي، يرى صانعو القرار أن برامج الدعم السابقة أخفقت في الحد من النفوذ الإيراني داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، وخاصة في ما يتعلق بفصلها عن الفصائل المسلحة المقربة من طهران.
وتميل الحكومة العراقية والقوى السياسية البارزة عموما إلى تبني موقف متوازن بين مصالحها الداخلية واحتياجاتها من الدعم الخارجي. ومع ذلك، فإن الضغوط الناشئة عن التغيرات الإقليمية الحالية تضعها في موقف حساس في ما يخص ضمان الاستقرار الأمني. وفي حال قررت الحكومة السعي لاستمرار المساعدة الأمنية، فقد تجد الساحة السياسية العراقية نفسها في خضم أزمة سياسية جديدة، لاسيما إذا كان عليها تقييم التكلفة المحتملة لهذا الدعم.
وينطبق ذلك بشكل خاص إذا حاول الجيش العمل دون الاستفادة من صور الأقمار الصناعية والدعم الجوي الذي توفره الطائرات الأميركية المسيرة منذ فترة طويلة، خاصة في المناطق الصحراوية والجبلية النائية التي تصعب مراقبتها بوسائل أخرى.