ما زالت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط الصنم البعثي عام 2003 تتجاهل الدستور الذي صوت عليه 80 في المئة من الشعب العراقي، ولم تطبق مادة واحدة من مواده المهمة كالمادة 140 التي تعالج أهم مشكلة مستعصية مرت على العراق منذ تأسيسه، وهي الصراع الدامي الطويل بين الحركة التحررية الكوردية وبين تلك الحكومات الشوفينية على مناطق كوردية انتزعتها من الكورد عبر عمليات التعريب والتهجير القمعية، ومن أهمها مدينة كركوك الإستراتيجية.
ورغم أن ديباجة الدستور تقضي بأن النظام العراقي نظام اتحادي فيدرالي “شعب العراق الذي آل على نفسه بكل مكوناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه”، فإن هذا النظام لم يتقدم خطوة باتجاه تطبيقه وتعميمه على العراق كدولة فيدرالية حقيقية، وظلت منطقة واحدة تتمتع بالفيدرالية وهي إقليم كوردستان الذي ما زال يتعرض إلى عقوبات قاسية مثل التجويع وقطع الرواتب سعيا “لإنهاء الوضع شبه المستقل لإقليم كوردستان ودمجه بالكامل من خلال تدابير قانونية واقتصادية بما في ذلك قانون موحد جديد للنفط” بحسب موقع “أويل برايس” الأميركي.
إن مطالبة السنة الدائمة بإقامة إقليم خاص بهم، وهي مطالبة دستورية وفق المادة 119، جوبهت برفض قاطع من قبل حكومة نوري المالكي باعتبارها تهديدا لأمن ووحدة البلاد. وما زالت السلطات ترفض أي صوت يدعو إلى إنشاء إقليم آخر في العراق غير إقليم كردستان وتعتبره خروجا عن الصف الوطني. وفكرة إنشاء الإقليم السني حسب رأي رئيس القضاء الأعلى فائق زيدان “تهديد لوحدة العراق وأمنه.”
وهذا زعم باطل ومبرر واه لا يمكن الركون إليه، وإذا ظن هؤلاء أن الفيدرالية ستقسم البلاد وتفتتها فهم واهمون، لأن الكثير من الدول في العالم حافظت على وحدتها وتطورت في ظل النظام الفيدرالي. هناك “25 دولة تتبنى النظام الفيدرالي من بينها دول كبيرة مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبلجيكا وسويسرا والهند وروسيا، ومن بينها أيضا دول فقيرة ونامية مثل إثيوبيا والمكسيك وماليزيا وكذلك دولة الإمارات العربية المتحدة” التي لم نسمع أن أيا من هذه الدول غيرت نظامها الفيدرالي إلى آخر لأنه يعرض وحدة البلاد إلى الخطر.
لو كان النظام الطائفي في بغداد يحكم بالدستور والعدل ويعيد الحقوق المغتصبة لأصحابها وفق المادة 140 منه، ولا يمارس سياسة التجويع الظالمة ضد الشعب الكردي، ولا يستخدم رواتب موظفيه كسلاح ضغط لإخضاعه لأجنداته الطائفية، لما اضطر إلى تنظيم عملية الاستفتاء عام 2017 للانفصال عن الدولة الظالمة والتخلص من سياستها القمعية. وما زال الدستور مركونا في أدراج البرلمان لا يعمل به إلا بشكل محدود وعند الحاجة، رغم أن النظام الرسمي في البلد دستوري وفيدرالي ولكن مع وقف التنفيذ.
المطلوب من الحكومة العراقية تصحيح المسار من خلال تعميم الفيدرالية لتشمل جميع أنحاء العراق غربا ووسطا وجنوبا، ولا تنحصر في إقليم كوردستان الذي يتعرض لأشد أنواع العسف منذ فترة طويلة لإزاحة كيانه الفيدرالي وإعادته إلى حظيرة السلطة المركزية في بغداد.
هذا الانحراف الخطير عن الدستور أدى إلى مشاكل وأزمات كبيرة لا حصر لها للعراق وللعراقيين، وقد أشار إليه رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني بوضوح وبيّن مخاطره وآثاره المدمرة على وحدة العراق واستقراره، وأظهر أن أصل كل المصائب في العراق عدم الالتزام بالدستور، قال “إن الفشل في تطبيق الدستور والفيدرالية كان دائما سببا في زعزعة استقرار العراق”، مضيفا “إن تعامل بغداد مع أربيل مركزي للغاية وليس اتحاديا.”
ورغم أن بغداد تدرك هذه الحقيقة، لكنها تتجاهلها دائما ولا تأبه لها، والنتيجة أن الأزمات تراكمت وتفاقمت بمرور الزمن ولم تنفع معها أي حلول سياسية ترقيعية خارج سياقات الدستور.