تعمل السعودية على أن تشمل بمسار المصالحات وتهدئة الصراعات الذي سلكته خلال السنوات الأخيرة، تجاوزَ التوتّرات الطائفية التي لم تكن المملكة بعيدة عنها، وخصوصا في العراق الذي تسلّمت زمام السلطة فيه بعد سقوط نظامه السابق، قوى شيعية وضعت بصمتها بقوة على الدولة العراقية وسياساتها العامة وعلاقاتها مع الإقليم لاسيما مع المملكة التي نظرت تلك القوى إليها بعدائية وبادلتها الرياض ذات النظرة، الأمر الذي خلق علاقات بين البلدين تراوحت بين التوتر والفتور.
ولم تنجح خطوات التقارب التي تمت خلال السنوات الأخيرة سوى في خفض التوتّر على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي بين العراق والسعودية وضمان حدّ أدنى من استقرار العلاقات بين الطرفين لم يرتق إلى مستوى التعاون الذي جرى التنظير له في عدّة مناسبات.
وعادت السعودية مؤخرا لتطرق بابا آخر للتقارب مع العراق يفتح مباشرة على المكوّن الشيعي هناك والذي يمثّل رافعة أساسية لتجربة الحكم القائمة في البلد.
ولا تنطلق الرياض في ذلك من فراغ بل تحاول البناء على مسار مصالحتها مع إيران والتي سبق لها أن انعكست على علاقاتها مع الحوثيين وكلائها في اليمن الذين خفّضت السعودية منسوب العداء معهم وقبلت بمحاورتهم بشكل مباشر أملا في جرّهم إلى السلام الذي تحاول المملكة مع قوى إقليمية ودولية إرساءه في اليمن.
وجسّدت زيارات قام بها السفير السعودي إلى أماكن عراقية ذات قداسة خاصة لدى الشيعة واتصالات أجراها مع مراجع ذات مكانة دينية لدى المكون الشيعي العراقي سياسة اليد الممدودة لهذا المكّون ولقياداته الروحية.
وشملت زيارات السفير عبدالعزيز الشمري العتبة الحسينية في كربلاء والعتبة العلوية بالنجف حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب الشخصية التاريخية الأكثر قداسة لدى الشيعة.
وتبدو الرسالة المراد تبليغها من وراء ذلك أن السعودية بصدد القفز على الحواجز الطائفية في التعامل مع شيعة العراق والمنطقة ككل، وأنّها تريد تجاوز العُقد المرتبطة بالعامل الطائفي وما ترتّب عن ذلك من تعقيدات ومشاكل.
أما سياسيا فإنّ الرياض تبدو بصدد التسليم بدور الشيعة ومكانتهم في حكم العراق حاليا، والتعامل مع ذلك كأمر واقع والعمل في ضوئه على ترسيخ الهدوء والاستقرار في المنطقة بالتعاون مع بلدانها.
وتأكيدا لحسن النوايا تجاه شيعة العراق سمحت السعودية بتسيير رحلات جوية تجارية من الدمام حيث تتركز الأقلية الشيعية بشرق المملكة إلى النجف التي تستقطب كل سنة الملايين من الحجاج الشيعة القادمين من المنطقة ومن خارجها.
وتحتضن النجف حيث التقى السفير السعودي باثنين من كبار مراجع الشيعة واحدة أهم الحوزات العلمية التي تمثّل مدارس للعلوم الدينية الجعفرية.
وقال السفير في تصريحات نقلها موقع العتبة الحسينية المقدسة على هامش زيارته لمرقد الإمام الحسين في كربلاء إن “زيارة العتبة الحسينية رسالة حب ومودة إلى الجميع”، مضيفا أنّ بلاده والعراق “يسعيان إلى التكامل الاقتصادي والسياسي والديني المشترك”.
وتعليقا على تحركات الشمّري وتصريحاته قال حسن المصطفى المحلل السياسي السعودي المتخصص في الشؤون الشيعية، إنّها تمثل “تعبيرا عن جدية الرياض في بناء علاقات حسنة مع بغداد، والانفتاح على مختلف مكونات الشعب العراقي”.
وأضاف متحدّثا لموقع قناة الحرّة الأميركية على شبكة الإنترنت أن “السعودية لا تقف عند حدود مذهبية بل يهمها المصلحة العامة للشعبين السعودي والعراقي”.
ورأى رئيس مركز بغداد للدراسات مناف الموسوي أن انفتاح سفير المملكة على المكون الشيعي العراقي “يؤكد أن الوضع في السعودية متغير مع السياسة الجديدة التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان”. وقارن الوضع الحالي بما كان قائما في السابق، بالقول “في السابق كان هناك صراع ديني يصل في بعض الأحيان لتكفير الطرف الآخر، قبل سياسة الانفتاح التي سلكها الأمير محمّد والتي كان لها تأثير واضح في المنطقة”.
ووصف الموسوي زيارة السفير السعودي لعلماء الشيعة بأنّها مظهر على “إذابة الجليد بين الدولتين”، مشيرا بوضوح إلى أنّ هناك “إشكالية طائفية كانت موجودة بين رجال الدين بالسعودية الذين يتبعون النهج الوهابي ورجال الدين بالعراق التابعين للمذهب الجعفري”.
وشهدت العلاقات السعودية – العراقية تقلبات كبيرة طوال عقود وتبادلا للاتهامات التي صدر أبرزها عن أطراف شيعية اتهمت المملكة بدعم تنظيمات متشددة في العراق.
وقطعت السعودية علاقاتها مع العراق عقب اجتياح الكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي. وحتى بعد سقوط نظام صدام حسين قبل أكثر من عقدين استمر التوتر بين البلدين خصوصا خلال تولي نوري المالكي زعيم حزب الدعوة الإسلامي الشيعي رئاسة الحكومة العراقية على مدى ثماني سنوات.
وبعد نحو ربع قرن من القطيعة الدبلوماسية بدأت العلاقات في التحسن تدريجيا عام 2015 في أعقاب تعيين الرياض لثامر السبهان سفيرا لها في بغداد لكنّه لم يلبث طويلا في المنصب، ففي بحر سنة واحدة توترت العلاقات بين البلدين مع طلب الخارجية العراقية من نظيرتها السعودية تغيير سفيرها إثر تصريحات للسبهان اتهم فيها ميليشيات عراقية بإعداد مخطط لاغتياله.
ومع ذلك استعادت العلاقات جزءا من عافيتها في فبراير 2017 مع زيارة لوزير الخارجية السعودي آنذاك عادل الجبير إلى بغداد في أول رحلة لمسؤول سعودي رفيع للعراق منذ العام 2003.
وفي أعقاب الزيارات المتتالية والمتبادلة خلال السنوات الماضية قرر البلدان عام 2020 العمل على إعادة افتتاح منفذ عرعر الحدودي الرئيسي بينهما والذي كان أغلق قبل أكثر من 33 عاما.
ويضطلع السفير السعودي الحالي في العراق بدور كبير في تهيئة الأرضية لعلاقات جيدة بين البلدين تتجاوز النخبة السياسية إلى القيادة الدينية ذات التأثير الاجتماعي الكبير.
ويعتمد الشمري على معرفته الجيدة بالعراق حيث عمل قائما بأعمال السفير السعودي منذ العام 2016 قبل أن يسلم أوراق اعتماده سفيرا للمملكة لدى بغداد في العام الموالي.
ولاقت تحركات الشمري في كربلاء والنجف ردود فعل إيجابية من قبل العراقيين الذين رحبوا بهذه الزيارات خصوصا وأنّها تمثّل سابقة لم تحدث من قبل.
واعتبر المصطفى أن ما قام به السفير يتضمّن رسائل تفيد بأن السعودية تحترم التنوع الثقافي والمذهبي وأن “المملكة ترفض أي خطابات طائفية تمزق المسلمين أو تثير الشحناء بينهم، وهذا الانفتاح دليل على عدم وجود أي حواجز تعيق بناء صلات شعبية متينة بين السعودية والعراق”.
وذكّر المحلّل السعودي بتسيير طيران ناس الناقل الاقتصادي المملوك للقطاع الخاص في المملكة لرحلات جوية مباشرة بين مدينة الدمام والنجف.
ولم يمر تسيير تلك الرحلات دون اهتمام رسمي سعودي حيث ذكرت وكالة الأنباء السعودية “واس” أنّ تسيير رحلات مباشرة بين الدمام والنجف جاء “نتيجة الجهود المستمرة من مجلس التنسيق السعودي – العراقي، إذ يحظى تعزيز العلاقات الثنائية مع العراق بدعم من الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده انطلاقا من العلاقات التاريخية بين البلدين والارتقاء بها إلى آفاق جديدة، بما يحقق المصالح المشتركة، ويعزز النمو والاستقرار في المنطقة”.
ويرى المصطفى أن الرحلات الجوية المباشرة عبر ناقل سعودي “تعبير عن نية الرياض تعزيز الأواصر الشعبية بين المملكة والعراق من خلال رفد السياحة الدينية”.
وتضيف رحلات الدمام إلى النجف خطا جويا جديدا بين البلدين، حيث ترتبط مدن سعودية بالعاصمة بغداد ومدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان شمالي العراق.
ويتوقّع المحلل السعودي أن تتطور العلاقات أكثر مستقبلا لتتجه إلى آفاق الاقتصاد من خلال الاستثمارات والتبادلات التجارية، وبالنسبة إليه فإنّه “كلما تحسنت الأوضاع الأمنية والتزمت الأطراف العراقية وتحديدا المسلحة منها بعدم التعرض للمملكة أو الإضرار بمصالحها الاقتصادية والمدنية والعسكرية، ستتطور هذه العلاقات إلى المزيد من التعاون في مجالات أكثر”.
ويعتقد مناف الموسوي أن تطور العلاقات بين بغداد والرياض يخدم البلدين معا إذ “يعيد العراق إلى الحاضنة العربية، و”يخفف الضغوط على السعودية فيما يتعلق بتعاملها مع الأقلية الشيعية”.
العرب