تواصل أحزاب وفصائل شيعية عراقية ممثلة بقوّة في حكومة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني وداخل البرلمان حملة اتهامها لسنّة العراق وكورده بعرقلة مسار إخراج القوات الأميركية من البلاد.
وتقول مصادر عراقية إنّ ما تقوم به تلك الأحزاب والفصائل يأتي على سبيل المزايدة ودغدغة مشاعر جمهورها الكاره للولايات المتّحدة بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل في حربها على قطاع غزّة، وبسبب ضرباتها العسكرية التي توقع خسائر بشرية في صفوف المقاتلين الشيعة المنتمين لميليشيات تعلن مقاومتها للوجود العسكري الأميركي في العراق.
وتؤكّد المصادر أنّ الرأي الحقيقي السائد حاليا بين قيادات الأحزاب والفصائل المشكّلة للإطار التنسيقي، الذي يعتبر المرجع الأساسي لحكومة السوداني، يقوم على التهدئة مع الولايات المتّحدة وتجنّب استثارتها بموضوع إخراج قواتها من العراق.
ولذلك، تضيف نفس المصادر، تفضّل أحزاب وفصائل الإطار مسايرة التكتيك الحكومي القائم على الدخول في مفاوضات طويلة ومتلكّئة مع الجانب الأميركي لا تفضي بالضرورة إلى حسم ملف تواجد القوات الأجنبية على الأراضي العراقية، لكنّها تكون مفيدة في ربح الوقت والرهان على تغيّر الظروف وزوال التوترات القائمة حاليا.
وقال أحد المصادر وهو عضو في البرلمان العراقي طلب عدم الكشف عن هويته إنّ نائبا من إحدى الكتل الشيعية القوية في البرلمان أوضح خلال نقاش مع زملاء له بشأن قضية القوات الأميركية أنّ الأولوية لدى قيادات أغلب الأحزاب والفصائل الشيعية هي الحفاظ على الوضع المالي للبلاد وتجنّب تعريضه لخطر الانهيار جرّاء التعرّض لسيل من العقوبات من قبل الولايات المتّحدة التي تمتلك ببساطة إمكانية وقف تدفّق عملة الدولار إلى العراق.
وكانت واشنطن قد أظهرت في الفترة الأخيرة توجّها نحو استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية والمالية ضد العراق وذلك في غمرة تصعيد الفصائل الشيعية لاستهدافها لمواقع تمركز القوات الأميركية في العراق وسوريا.
وفرضت وزارة الخزانة الأميركية مؤخرا عقوبات على شركة طيران فلاي بغداد لاتهامها بتسخير أسطولها لتقديم خدمات لوجستية للفصائل المسلّحة التابعة لإيران، كما فرضت عقوبات على ثمانية مصارف فرعية عراقية لعدم التزامها بضوابط التصرف بعملة الدولار الذي ترسل واشنطن شحنات منتظمة منه إلى بغداد.
ومن شأن تشديد الولايات المتّحدة لضغوطها المالية على العراق أن يلحق أضرارا مباشرة بالأحزاب والفصائل الشيعية من جهتين، أولاهما تعقيد مهمّة حكومة السوداني وإرباك عملها وتهديد استقرارها، والحال أنّها ليست سوى حكومة مدينة بتشكيلها لتلك القوى ذاتها والتي كانت قد اجتمعت إثر الانتخابات البرلمانية السابقة تحت راية الإطار التنسيقي وعقدت صفقات مع قوى أخرى من خارجه لمنع فوز التيار الصدري بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بامتياز تشكيل الحكومة باعتبار التيار حاصلا على أعلى عدد من مقاعد البرلمان في الانتخابات.
وقال مصدر ثان إنّ قوى الإطار التنسيقي حريصة في النهاية على حماية حكومتها وضمان استمرار عملها حتّى موعد الانتخابات البرلمانية القادمة درءا لعودة الأجواء التي كانت قد سادت سنة 2019 وما بعدها بفعل الاحتجاجات الشعبية العارمة، وشكلّت تهديدا جديا لحكم الأحزاب الشيعية المتحكّمة بشكل رئيسي في زمام الدولة العراقية منذ سنة 2003.
وأضاف أنّ السماح ببقاء القوات الأميركية في العراق يعتبر لدى غالبية قيادات الإطار التنسيقي ثمنا زهيدا يمكن تقديمه في سبيل حماية النفوذ الكبير لأحزابها وفصائلها داخل مؤسسات الدولة، خصوصا وأنّ واشنطن لم ترفض سيطرة تلك الأحزاب والفصائل على الحكومة وقبلت بالتعامل معها كأمر واقع رغم علمها بصلاتها القوية بإيران وحرصها على تنفيذ سياساتها ورعاية مصالحها.
أمام ثاني مظهر للضرر المباشر الذي تخشى قوى الإطار التنسيقي أن يترتّب على استفزاز الولايات المتّحدة بقضية إخراج قواتها من العراق، فيتمثّل في جفاف “منابع” الدولار الذي تعرف تلك القوى كيف تصل إلى مبالغ كبيرة منه عن طريق عمليات احتيال وتلاعب معقّدة وتحوّله إلى مصلحتها، فيما تسمح بتسرّب مبالغ أخرى نحو إيران.
ومن هذه الزاوية، يقول عضو البرلمان العراقي إنّ قوى الإطار التنسيقي وخصوصا تلك الأكثر قربا من إيران لن تجد حرجا أمام الأخيرة في المماطلة في ملف إخراج القوات الأميركية من العراق، على أساس أنّ ذلك يساهم في حماية مصلحة حيوية مشتركة بين تلك القوى وطهران.
ولم تمنع النبرة العالية للأحزاب والفصائل الشيعية بشأن ملف إنهاء الوجود العسكري الأميركي على الأراضي العراقية من بروز أصوات من داخل تلك الأحزاب نفسها تجاهر بوجوب التريّث في معالجة القضيّة وإلقائها على عاتق الحكومة بدل معالجتها تحت قبّة البرلمان، حيث يتطلّب الأمر مواقف حدّية يضيق فيها هامش التسويف والمماطلة.
وبرز هذا التوجّه بوضوح في تصريحات أدلى بها لتلفزيون محلّي القيادي في ائتلاف دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، جاسم محمد جعفر وقال خلالها إنّ الاستعجال في إخراج القوات الأميركية قد يضر العراق ولا ينفعه.
وقال جعفر إنّ على الحكومة أن تدرس مسألة خروج القوات الأجنبية بشكل دقيق وتحدد ما إذا كانت قادرة على صد تنظيم داعش وحماية أجواء العراق.
وذهب حدّ التخويف من شنّ إسرائيل لهجمات جوّية على العراق في غياب القوات الدولية على غرار الضربات التي توجهها القوات الإسرائيلية بشكل متكرر لأهداف داخل الأراضي السورية.
ولا يختلف موقف القيادي في ائتلاف المالكي عن مواقف قيادات سنيّة وكوردية عراقية ظلّت دائما تجاهر بمعارضتها لإنهاء الوجود العسكري الأميركي لخشيتها من أن يؤدي تقلّص النفوذ الأميركي في العراق إلى اختلال التوازن بشكل كامل لمصلحة حلفاء إيران.
وجدّد الرئيس مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني الشريك الأكبر في حكم إقليم كوردستان العراق موقفه من قضية إخراج القوات الأميركية.
وقال في لقاء جمعه بديفيد برغر القائم بأعمال السفارة الأميركية في العراق إن بقاء قوات التحالف الدولي ضد داعش في العراق “مسألة وطنية ولا تتعلق بمكون معين فقط”.
ورأى أنّ على الحكومة العراقية أن تتوصل عن طريق الوزارات والمؤسسات الرسمية إلى اتفاق على أساس نتائج الحوار مع التحالف، مؤكّدا على ضرورة أن تدرك جميع المكونات العراقية “حقيقة أن الإرهاب ومخاطر عودته للظهور مجددا لاتزال قائمة”.
كما رأى بارزاني أنّ معالجة ملف وجود القوات الأجنبية على الأراضي العراقية ليس من اختصاصات البرلمان ولا بد من إبعاد هذه المسألة عن “المزايدات السياسية والتداعيات والمعادلات الإقليمية من أجل الحفاظ على مصلحة العراق”.
ولم يتردّد السياسي الكوردي المخضرم في تذكير القوى الحاكمة حاليا في العراق بفضل القوات الأميركية عليها، قائلا “لولا قيام الولايات المتحدة بإسقاط النظام السابق.. فإن الموجودين في السلطة الآن ما كانوا ليتمكنوا من حكم العراق أبدا”.
وتمتلك القوى الشيعية العراقية المتحالفة مع أحزاب من خارج عائلتها الأيديولوجية والطائفية أغلبية مريحة في مجلس النواب تستطيع استخدامها في تفعيل القرار البرلماني السابق بشأن إخراج القوات الأميركية من العراق وتحويله إلى قرار ملزم للحكومة حتى في غياب القوى المعترضة على ذلك. إلاّ أن جلسة برلمانية استثنائية انعقدت مؤخّرا أظهرت بوضوح عدم رغبة تلك القوى الشيعية في ذلك، حيث تغيّب ستون نائبا ينتمون تحديدا لأحزاب الإطار التنسيقي فضلا عن تغيّب غالبية النواب السنّة والكورد.
وفي ظلّ اللعبة المزدوجة التي تمارسها القوى الشيعية والقائمة على إيهام الجمهور بعملها على إخراج القوات الأميركية من البلاد، والدفع سرّا باتجاه التهدئة مع الولايات المتّحدة وتجنّب إثارة غضب إدارتها، تجد تلك القوى مهربا مناسبا في المزايدة على القوى السنية والكوردية والاختباء وراء موقفها الصريح من قضية إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق.
ووجّه علي حسين عضو تحالف الفتح الممثل السياسي لميليشيات الحشد الشعبي، الخميس، النقد لموقف الكتل السنية والكوردية داخل البرلمان العراقي من التواجد العسكري الأميركي في العراق قائلا إنّ ذلك الموقف سيخلق أزمة سياسية داخل مجلس النواب.
وأضاف في تصريحات أوردتها مواقع إخبارية عراقية “كان من المفترض أن تكون هناك شراكة حقيقية بين مكونات المجلس، حيث لا يمكن أن يكون هناك شريك في المناصب والأموال من دون أن يكون شريكا في السيادة”، معتبرا أن “جميع الكتل السياسية يجب أن تفكر بالشراكة الوطنية والسياسية في كل الملفات والمجالات، وليس البحث عن المال والمناصب وتجاهل أهم الملفات التي تتعلق بسيادة العراق وأمنه واستقراره”.
العرب