أظهر تعليق لسناتور أميركي بشأن مدى دستورية المحكمة الاتّحادية العراقية العليا واستقلاليتها عن الاعتبارات السياسية أن العراق أصبح بالفعل واقعا تحت مجهر الملاحظة الأميركية وأن مآخذ واشنطن تتجاوز القضايا المعروفة مثل مكانة الميليشيات وسطوتها على المشهدين السياسي في البلد لتطال مسائل أكثر دقة وتفصيلا مثل حالة المحكمة المذكورة.
وتعدّدت خلال الفترة الأخيرة تدخلات المحكمة في الشأن السياسي بإيجاد حلول توصف بأنها “سريعة ومفبركة” لقضايا يفترض أنها من صميم اختصاص السياسيين أو مؤسسات أخرى مثل البرلمان ومجالس المحافظات وتحوّلت أغلب قراراتها إلى مخارج لأطراف بعينها من صراعات وخصومات ذات طبيعة مصلحية مباشرة.
وأصبحت المحكمة التي يرأسها القاضي جاسم عبود بذلك عبئا على القضاء العراقي وسمعته ومثارا لانتقادات شديدة له رغم أنّه لا يخلو، بحسب متابعين للشأن القضائي العراقي، من كفاءات عالية وشخصيات نزيهة حاولت على مدى السنوات الماضية مغالبة سطوة القوى الدينية والميليشيات المسلحة على الدولة العراقية ومؤسساتها للحفاظ على قدر من استقلالية القضاء ومصداقيته.
وانتقد عضو مجلس الشيوخ الأميركي جو ويلسون المحكمة الاتحادية العراقية وشكّك في دستوريتها. ووجه انتقاداته إلى رئيسها القاضي عبود واصفا إياه بـ”الدمية في يد إيران وميليشيا بدر.” وقال في تدوينة له على منصة إكس “المحكمة العليا العراقية غير دستورية وأصبحت أداة للنظام الإيراني،” مشيرا إلى ضرورة إصلاحها بشكل جذري أو فرض عقوبات عليها.
ولا تخلو إشارة السناتور إلى مسألة العقوبات من إنذار جدّي للسلطات العراقية التي باتت على يقين بأنها أصبحت مع عودة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتّحدة عرضة لضغوطه، وأنّ عليها الحدّ من ارتباطاتها السياسية والاقتصادية بطهران والتخفيف من الحضور الطاغي للميليشيات في مفاصل الدولة ومشهدها العام لتجنيب العراق عقوبات لا يستطيع تحمّلها نظرا لارتباطاته الاقتصادية والمالية الوثيقة بواشنطن، وخصوصا ما يتعلّق بعملة الدولار التي يحصل عليها بانتظام من الخزانة الأميركية.
ويحيل تشكيك ويلسون في دستورية المحكمة على الجدل الذي رافقها منذ التأسيس سنة 2005 على يد الاحتلال الأميركي وتواصل على مدى مسيرتها وتعلّق بطريقة اختيار أعضائها والقرارات التي اتخذتها طوال تلك المسيرة.
وسبق تأسيسُ تلك المحكمة إقرارَ الدستور العراقي الحالي بحدّ ذاته والذي ورد بعد ذلك مُقرّا بالأمر الواقع الذي فرضه الحاكم المدني للعراق بول بريمر، وكل ما تضمّنه في نصوصه هو الإشارة إلى تركيبة المحكمة من قضاة وخبراء في الفقه الإسلامي يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب، وذلك بشكل مجمل لا يحدّد عدد الأعضاء وطريقة اختيارهم وعدد سنوات خدمتهم.
وما يزال ترك مسائل أساسية متعلقة بالمحكمة الاتحادية رهن اجتهادات وتوافقات وصفقات أعضاء البرلمان المنتمين لتيارات سياسية يلقي بظلاله على أداء تلك المحكمة ويطعن في صدقيتها، ويضفي مسحة واضحة من التسييس على عملها.
وشهدت مسيرة المحكمة محطات بارزة في مجال تسييس القرار القضائي بشكل ترك آثارا طويلة الأمد على البلد، من بين أبرزها تدخّلها إثر الانتخابات البرلمانية لسنة 2010 لتفسير معنى الكتلة النيابية الأكبر المنصوص عليها في الدستور، وكان ذلك التدخل سياسيا بامتياز أتاح لزعيم حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي الفوز بمنصب رئيس الوزراء على حساب العلماني الشيعي إياد علاوي الذي تغلب على المالكي في عدد المقاعد المتحصل عليها في مجلس النواب، لكن المحكمة رأت أن العبرة ليس بمن يفوز في الانتخابات ولكن بمن يستطيع تشكيل أكبر تكتل تحت قبة البرلمان.
وبذلك قاد المالكي السلطة التنفيذية لأربع سنوات كانت فيها للعراق حصيلة كارثية على مستوى التنمية والاقتصاد وخُتمت سنة 2014 بكارثة سيطرة تنظيم داعش على ما يقارب ثلث مساحة البلاد وذلك بسبب حالة الضعف الشديد التي أصبحت عليها القوات المسلّحة العراقية نتيجة تسرّب الاعتبارات الطائفية والفساد إلى صفوفها في عهد المالكي.
ووصلت المحكمة الاتحادية العراقية العليا بسوء أدائها حدّ التناقض في قراراتها وتضاربها، وكمثال على ذلك رفضت سنة 2002 طلبا تقدّم به نواب مستقلون وآخرون من التيار الصدري آنذاك بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر لحل البرلمان، معتبرة ذلك خارجا عن اختصاصها، ولكنها لم تتردّد في إعلانها عدم شرعية برلمان إقليم كوردستان العراق بسبب انتهاء مدّته الدستورية.
ويقول ساسة وحقوقيون ودارسون قانونيون عراقيون إنّ المحكمة بقيادة عبود المعروف بصلاته الوثيقة بالميليشيات الشيعية، وخصوصا ميليشيا بدر بقيادة الرجل القوي والمتنفّذ والحليف الموثوق لإيران هادي العامري، تكاد خلال الفترة الأخيرة تتفرّغ لحماية نفوذ قادة أحزاب وفصائل شيعية مسلّحة ومكانتهم في السلطة، بما يشمل أيضا حلفاء هؤلاء القادة وأصدقائهم.
ويشير هؤلاء إلى سلسلة قرارات المحكمة الاتحادية بشأن إقليم كوردستان ووضعه السياسي الداخلي والتي صبّت في مجملها في مصلحة الاتحاد الوطني الكوردستاني بزعامة بافل طالباني حليف زعيم ميليشيا عصائب أهل الحقّ قيس الخزعلي وعدد آخر من رموز معسكر الموالاة لإيران في العراق، وعلى حساب المنافس الأكبر للاتحاد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة المرجع الكوردي المخضرم مسعود بارزاني.
واستجابت المحكمة في هذا الإطار لطلبات الاتحاد الوطني بإدخال تعديلات على قانون انتخابات إقليم كوردستان وطريقة إجرائها والهيئة المكلفة بالإشراف عليها، وهي تعديلات كان حزب طالباني يأمل في أن تغيّر نتائج الانتخابات لمصلحته وتقلب ميزان القوى الراجح للحزب الديمقراطي، وهو ما لم يحدث خلال الانتخابات الأخيرة التي جرت في الإقليم في شهر أكتوبر الماضي وأبقت على الديمقراطي في المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد البرلمانية المتحصل عليها أمام الاتّحاد صاحب المرتبة الثانية.
وامتدت التدخلات السياسية للمحكمة الاتحادية إلى الحكومات المحلية للمحافظات، حيث تدين حكومة كركوك التي شكّلها الاتحاد مع بعض حلفائه بطريقة طعنت أطراف أخرى في شرعيتها، ببقائها في موقعها، للمحكمة ذاتها التي ردّت طعون تلك الأطراف.
العرب