أطلق العراق طريق التنمية، وهو مشروع كبير يسعى للاستفادة من موقع البلاد الجغرافي وحدوده المتعددة. ويهدف المشروع إلى إنشاء شبكة نقل تربط الخليج العربي بتركيا، وهو واحد من العديد من المشاريع المماثلة التي تتم مناقشتها في الشرق الأوسط اليوم لتعزيز التجارة والاتصال عبر الحدود، ليس فقط بين دول المنطقة ولكن أيضًا بين دول آسيا وأوروبا وأفريقيا.
ويقول الباحث حارث حسن، الذي يركز أبحاثه على العراق والطائفية وسياسات الهوية والجهات الفاعلة الدينية، في تقرير نشره مركز كارنيغي للشرق الأوسط إنه من شأن طريق التنمية، في حال نجاحه، أن يعزز مكانة العراق الجيوسياسية كممر تجاري ويوفر عوائد مالية تقلل من اعتماد الدولة على الهيدروكربونات وفرص عمل في القطاع العام للشباب الباحثين عن عمل. والأهم من ذلك أن المشروع هو أيضًا محاولة لتقديم نموذج تنموي جديد يمكنه تحقيق استقرار البلاد سياسيًا والتخفيف من العواقب الضارة بالاقتصاد الريعي.
ويضيف حسن أنه مع ذلك هناك العديد من العوائق أمام تحقيق طريق التنمية، والتي تشير إلى أن الطموحات العراقية قد تكون متضخمة. ويشمل ذلك قدرة الدولة على تمويل وتنفيذ مثل هذا المشروع الضخم، خاصة في ضوء الفساد السائد على المستوى الوطني. وتنطوي العقبات أيضًا على احتمال انعدام الأمن وعدم الاستقرار في العراق، الأمر الذي قد يؤدي إلى إبعاد المستثمرين أو الدول التي تسعى إلى الاستفادة من طريق التنمية.
ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن العراق سوف يضطر إلى إيجاد مكان لنفسه وسط التنافس الجيواقتصادي والجيوسياسي الإقليمي، مع طرح مشاريع الربط التجاري المتنافسة. وتشمل هذه مبادرة الحزام والطريق الصينية، والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وطموحات إيران في التحول إلى منصة للتجارة العابرة للأقاليم.
وسيعزز فشل طريق التنمية في تحقيق إمكاناته، خاصة إذا كان ناجماً عن الفساد وسوء الإدارة، فكرة أن العراق غير قادر على تنويع اقتصاده والإفلات من فخ النظام الريعي. وستكون لذلك عواقب وخيمة عندما يتراجع الطلب على الهيدروكربونات وتنخفض الأسعار. وعلاوة على ذلك، فإن الجهود الرامية إلى تحويل الحدود من مناطق للصراع إلى مناطق ذات مصالح متقاربة وتكامل اقتصادي، رغم أنها تشكل تطوراً إيجابياً من الناحية النظرية، إلا أنها قد تؤدي إلى صراعات جديدة بسبب المنافسة الشديدة حول تحديد الحدود الأكثر ملاءمة لمثل هذا الدور ومن الذي يستفيد أكثر من غيره.
عوائق محتملة
إذا كان قادة العراق ينظرون إلى طريق التنمية على أنه علاج سحري لمشاكل البلاد العديدة، فإن هذه المشاكل ذاتها هي التي قد تساهم في إعاقة أو منع تنفيذ المشروع. ومن بينها عدم الكفاءة والفساد داخل الهيئات الحكومية، ما يعيق تنفيذ المشاريع العراقية العملاقة ويختطف المبالغ الكبيرة اللازمة لتمويلها.
والمشكلة المحتملة الثانية هي انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي قد لا يعيق استكمال المشروع فحسب، بل أيضًا جاذبيته للزبائن والمستثمرين. وثالثا، هناك تنافس جيواقتصادي وجيوسياسي كبير على مشاريع الارتباط التجاري الإقليمي، بحيث تعارض بعض البلدان طريق التنمية أو تظل غير داعمة له.
وأثارت حملة الحكومة العراقية لتسويق المشروع داخليا وخارجيا اعتراضات أو تحفظات. وشكك بعض الخبراء في مدى التطبيق العملي لطريق التنمية وإمكانية أن يقلل تكاليف النقل الدولي، نظرا إلى الوضع الأمني المضطرب في العراق، والذي يفرض أقساط تأمين عالية على الشركات.
ووفقا لمنتقدي المشروع، فإن طريق التنمية يتطلب عدة إجراءات بشأن أولوية المراحل التي لم يتم تنفيذها أبداً. ويبدو أن الحكومة العراقية تتعرض لضغوط لإثبات نيتها في تطوير البنية التحتية من خلال تضخيم الفوائد المحتملة، والتي ربما تكون قد حلت محل الحاجة إلى الفحص الدقيق للمشروع.
وكان الشرط الأساسي المهم هو الحاجة إلى تقييم الأسواق العالمية وتحديد الزبائن الذين قد يستخدمون طريق التنمية، وكميات البضائع التي سيتم نقلها، وحجم الشركات التي ستستخدمه. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول إن الدولة العراقية غير فعالة وفاسدة للغاية بحيث لا يمكنها إدارة مسعى كبير مثل طريق التنمية بشكل صحيح. وقد يحول الافتقار إلى التزامن بين مؤسسات الدولة دون وضع خطة عمل جيدة التخطيط والمراحل.
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان البرلمان العراقي، الذي تسيطر عليه فصائل تسعى إلى تعظيم أرباحها في الدولة، سيخصص مبالغ مالية كافية للحكومة من أجل المضي في مراحل المشروع. ويرى منتقدو المشروع أيضًا أنه ليس أكثر من مجرد غطاء جديد للفساد السياسي، ويجادلون بأنه سيتم استخدامه لتمرير أرباح غير قانونية إلى الأحزاب السياسية الحاكمة ورجال الأعمال الذين ترتبط بهم الأحزاب.
وتلعب السياسة دورا في حالة عدم اليقين هذه. وتتردد بعض الأحزاب السياسية في تخصيص ميزانية كبيرة لبناء طريق التنمية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الخوف من أن يعزز ذلك موقف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني فيما يتعلق بالجهات السياسية الفاعلة الأخرى. كما يشعر بعض المراقبين بالقلق من أن المخصصات المالية الكبيرة قد تغري الأحزاب السياسية بالسعي للحصول على جزء من تلك الأموال من خلال عقود ثانوية مشبوهة.
وهذه المخاوف لها أساس ما في الواقع، مع وجود أدلة واضحة على أن الشركات المرتبطة ببعض الفصائل السياسية والجماعات المسلحة نجحت في تأمين مثل هذه العقود لميناء الفاو، ما يدل على أن الشركات ذات العلاقات السياسية ربما تمكنت بالفعل من الوصول إلى مختلف مكونات المشروع. وهناك أيضًا مشكلة انعدام الأمن وعدم الاستقرار في العراق، والتي لن تحدد فقط من سيختار استخدام طريق التنمية ولكن أيضًا من قد يستثمر في المشروع.
وعلى سبيل المثال تعترض حكومة إقليم كوردستان على المشروع لأن الخطة الأولية للطريق الرئيسي استبعدت حكومة الإقليم، التي تشترك في الحدود مع تركيا، وتلتف حولها عبر محافظة نينوى. وتعتقد السلطات الكوردية أن استبعاد حكومة إقليم كوردستان من الخطة له دوافع سياسية واقتصادية ويهدف إلى إضعاف المنطقة الكوردية. وقد تعهد رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني بأن حكومته لن تسمح بحدوث ذلك.
ويمكن للأحزاب الكوردية أن تشكل تهديداً أمنياً للمشروع، أو حتى تمنع البناء في المناطق القريبة من حكومة إقليم كوردستان، وبالتالي تحويل طريق التنمية إلى مصدر لعدم الاستقرار في منطقة مضطربة بالفعل. وفي الوقت نفسه قد يعيق حزب العمال الكردستاني، الذي يتمتع بحضور قوي في غرب محافظة نينوى وعبر الحدود في سوريا والذي انخرط في صراع طويل مع الحكومة التركية، أعمال البناء أو حتى يهدد النقل على طريق التنمية إذا تم الانتهاء منه.
وقد يشكل الضعف النسبي للحكومة العراقية ووجود فصائل مسلحة مؤثرة، بعضها له تاريخ من الابتزاز والاختلاس، عقبة حقيقية أخرى أمام نجاح المشروع. كما قد تشكل بعض الجماعات المسلحة المتحالفة مع إيران، والتي أنشأت وجودًا قويًا في شمال العراق وفي المثلث العراقي – التركي – السوري، تهديدًا أمنيًا.
تحديات لوجستية
وفي حين أن بعض هذه الجماعات، مثل عصائب أهل الحق، تتواجد حاليًا متحالفة مع الحكومة السودانية، يستمر آخرون، وخاصة كتائب حزب الله وحركة النجباء، في العمل بشكل مستقل وفي بعض الأحيان يتحدون سياسة الحكومة، كما يتضح من هجماتهم على القوات الأميركية المنتشرة في العراق بعد اندلاع حرب غزة، ويمكن أن يعرضوا النقل على الطريق للخطر إذا شعروا بأن مصالحهم لم يتم أخذها في الاعتبار بشكل كافٍ.
وفي الوقت نفسه قد يمثل طريق التنمية، باعتباره مشروعاً كبيراً له آثار إستراتيجية على العراق، فرصة ومحفزاً للحكومة العراقية على توسيع سيطرتها الأمنية إلى أطراف البلاد وتوسيع نطاق السلطات المركزية. ومع ذلك تشير ضرورة تأمين حدود العراق وأطرافه، سواء نجح ذلك أو فشل، إلى احتمال حدوث توترات أو أعمال عنف.
وتدير بعض الميليشيات الموالية لإيران شبكات تهريب عبر الحدود العراقية – السورية وتتعاون مع حزب العمال الكوردستاني، ما يعني أنها قد ترد إذا حاولت الدولة تعزيز سلطتها في مناطق عملياتها. وبالإضافة إلى ذلك قد يوفر افتقار إيران إلى التحمس لطريق التنمية وحقيقة أنه قد يتنافس مع مشاريع الاتصال الإقليمية الإيرانية، ومعارضة الميليشيات الموالية لإيران لسلوك تركيا في العراق، حوافز أخرى للجماعات المعارضة أو يعرقل طريق التنمية.
هناك العديد من العوامل التي تثير الشكوك حول قدرة العراق على بناء أكبر ميناء في الشرق الأوسط، وتحقيق عوائد كبيرة من المشروع، واستخدامه في تنويع الاقتصاد العراقي. ولا يبدو أن الحكومة العراقية قامت بالأعمال التحضيرية الكافية لضمان القيمة الإستراتيجية للطريق. ويبدو أنه لا يوجد إجماع بين المؤسسات الحكومية في ما يتعلق بنطاق وأهداف وكلفة طريق التنمية، كما أن الأحزاب السياسية العراقية المهيمنة لم تظهر استعداداً كبيراً لدعمه.
وتتردد بعض الأحزاب في القيام بذلك، إما لأغراض سياسية، مفضلة إعطاء الأولوية للمكاسب قصيرة المدى من خلال وظائف القطاع العام والمحسوبية، أو لأن رعاتها الإقليميين لا يدعمون الطريق، خاصة الجماعات المرتبطة بإيران.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من الهدوء النسبي في العراق، فإن الوضع السياسي والأمني في البلاد أبعد ما يكون عن الاستقرار. وأخيرا، فإن وجود المشاريع المتنافسة في المنطقة والفشل في بلورة الإجماع الإقليمي حول أي منها ينبغي أن تعطى له الأولوية من شأنهما أن يجعلا من الصعب على دولة مثل العراق أن تفرض إرادتها أو تغري الآخرين بالانضمام. وقد تؤدي هذه التحديات إلى إعادة تقييم كبيرة للمشروع، أو ما هو أسوأ من ذلك، إلى توقفه لفترة طويلة.
وعلى الجانب الأكثر إيجابية قد يمثل طريق التنمية مشروعاً وطنيا أو شعارا يمكن أن يلتف حوله معظم العراقيين بعد سنوات من الانقسام. وقد يكون أيضًا نقطة انطلاق للتفكير جديًا في بدائل عن اعتماد البلاد شبه المطلق على الهيدروكربونات. ويمكن أن يلعب هذا دوراً مهماً في دفع الدولة إلى إعادة بناء بنيتها التحتية المتداعية، وتعزيز الروابط بين مختلف أجزاء العراق وتوفير زخم للقطاع الخاص.
ومازال المجال متاحا أمام الحكومة العراقية للتطرق إلى آراء المشككين في طريق التنمية، والقضايا التي قد تتحول إلى معوقات مستقبلية. وهذا يتطلب مأسسة إدارة المشروع، ربما من خلال تشكيل هيئة دائمة برئاسة رئيس الوزراء للإشراف على سير المشروع ومعالجة الصعوبات المحتملة.
وهناك حاجة أيضا إلى شكل من أشكال الشراكة مع الجهات المانحة المحتملة والقطاع الخاص، مع إبداء الحكومة العراقية اهتماما شديدا بالشفافية في التعامل مع المشروع. ومع ذلك، لن يكون هذا كافيا ما لم تتمكن الحكومة من تأمين الدعم السياسي المستدام وتبسيط عملية تمويل طريق التنمية، الأمر الذي يتطلب استنباط حجة قوية لصالح المشروع الذي لا يترك مجالا للشك حول نجاحه.
العرب