تزداد أوضاع بلدة جرف الصخر العراقية شماليّ محافظة بابل إلى الجنوب من بغداد بنحو 60 كيلومتراً، غموضاً، ولا سيما أنها معزولة تماماً عن الحالة العراقية، ولا يمكن الدخول إليها حتى من قبل المسؤولين في الحكومة والجيش، وما زالت على رأس المناطق العراقية منزوعة السكان منذ نحو 10 أعوام. غير أن تساؤلات برزت خلال السنوات الأخيرة حول النشاطات التي تُجرى داخل بلدة جرف الصخر من قبل الجهات المسلحة التي تسيطر عليها، لتأتي الضربة الأميركية الأخيرة على البلدة، يوم الثلاثاء 30 يوليو/تموز الماضي، لتُظهر أنها تحوّلت إلى منطقة ارتكاز للفصائل المسلحة العراقية، واحتمالات وجود معامل وورش لتصنيع وتطوير الصواريخ والطائرات المسيّرة فيها.
قصف جرف الصخر
وقُصفت جرف الصخر يوم 30 يوليو الماضي بصواريخ لم يُعرف عددها لغاية الآن، نفذها طيران مسيّر، وسقط عدد من القتلى جراء هذا القصف، بينهم قيادي في جماعة الحوثيين، نقلت وكالة تسنيم الإيرانية تفاصيل مقتله لاحقاً. وأعلنت هيئة الحشد الشعبي في العراق، في بيان، “تعرّض مقر تابع للواء 47 قيادة عمليات الجزيرة في الحشد الشعبي لثلاث ضربات جوية من قبل طيران أميركي مسيّر في منطقة السعيدات بناحية جرف النصر (التسمية التي يطلقها الحشد على جرف الصخر)، بمحافظة بابل، ما أدى إلى مقتل 4 من أفراد اللواء”. وأوضحت في بيان أن “الهجوم الأميركي استهدف ثلة من المجاهدين التقنيين في أثناء تأدية واجبهم الوطني والأخلاقي في حماية أرض الحسين، وتأمين زوار أربعينيته”، من دون أن تورد أي تفاصيل عن وجود قتلى غير عراقيين بالهجوم الأميركي.
ودان الأمين العام لمنظمة بدر، هادي العامري، ما أسماه “العدوان الأميركي على قواتنا الأمنية من أبناء الحشد الشعبي في جرف النصر”، مشيراً إلى أن “تزامن هذا الاعتداء مع العدوان الصهيوني على بيروت يؤكد وحدة المنهج العدواني وحجم التنسيق الواسع بين أطرافه”. وطالب الحكومة العراقية باتخاذ خطوات سريعة لإنهاء الوجود الأميركي في البلاد. لكن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، كشفت بعد يومين تفاصيل الضربة التي وجهتها إلى مقر تابع لـ”الحشد الشعبي” في جرف الصخر. وقالت نائبة المتحدث باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، خلال مؤتمر صحافي، إن “الضربة كانت دفاعية، ونُفِّذَت بعد رصد هجوم على وشك الوقوع”، مبينة أن “الولايات المتحدة لن تتردد في اتخاذ التدابير الدفاعية لضمان سلامة جنودها ومصالحها في العراق والمنطقة، وأن هناك إجراءات إضافية تشمل تغييرات في وضع القوة الدفاعية الحالية والمستقبلية التي ستتخذها الوزارة لدعم حلفائها في المنطقة”، لافتة إلى أن هذه الخطوة قد تشمل “نشر قوات إضافية في المنطقة”.
عقب ذلك، أعلنت وكالة تسنيم الإيرانية مقتل القائد الميداني اليمني حسين عبد الله مستور الشعبل، أحد قادة جماعة الحوثيين، خلال تنفيذه مهمة خارج اليمن، موضحة أن “الشعبل قتل في الغارة الجوية الأميركية الأخيرة على الأراضي العراقية”. وتزيد هذه المعلومة التي ذكرتها الوكالة الإيرانية، من ترجيحات تحوّل جرف الصخر إلى موقع لتصنيع الصواريخ وتطوير الطائرات المسيّرة.
وتواصلت صحيفة “العربي الجديد” مع مصدرين من “الحشد الشعبي”، أقرّ أحدهما بما وصفه “خصوصية” بلدة جرف الصخر، وأن شؤونها خاضعة لقرار الفصائل التي تسيطر عليها. وأكد أن “آخر مفاوضات مع الفصائل بشأن البلدة كانت قبل أقل من عام واحد، وهناك رفض لدخول الجيش والشرطة والمشاركة في الانتشار بها، أما عودة الأهالي إليها، فهو بعيد في الوقت الحالي”. فيما أكد الآخر وجود عناصر غير عراقية داخل جرف الصخر بصفة “المستشارين”، وهم “إيرانيون ويمنيون ولبنانيون”.
وبعد الضربة الأميركية الأخيرة، لم يُسمح لفرق الإسعاف والدفاع المدني العراقي الدخول إلى البلدة، ومُنع أفراد تلك الفرق الآتية من مدينة المسيب المجاورة من الدخول واقتصرت عمليات الإخلاء على عناصر تلك المليشيات، وفقاً للمصدر الآخر الذي أكد وجود أكثر من قتيل غير عراقي بالضربة الأميركية الأخيرة.
ورش لتصنيع الصواريخ والمسيّرات
وبالنسبة إلى تحوّل بلدة جرف الصخر إلى منطقة ورش ومصانع للصواريخ والمسيّرات، قال المصدر إن “الحشد الشعبي، باعتباره مؤسسة عسكرية رسمية، لديه وحدة للتصنيع العسكري، وهي علنية، لكن عن صواريخ ومسيّرات الفصائل، هناك ورش خاصة بكل فصيل له وجود داخل جرف الصخر”. وأضاف لـ”العربي الجديد” أن “الحديث عن جرف الصخر يُعتبر من أكثر المواضيع خطورة داخل هيئة الحشد الشعبي، لأنها تحت سيطرة عدد من الفصائل التي تعتبر الأقوى من غيرها من حيث التأثير في الهيئة”.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، تعرضت البلدة أيضاً لضربات أميركية استهدفت عدداً من المدارس في جرف الصخر التي حوّلتها الفصائل المسلحة العراقية إلى مقرات، لكن “الحشد الشعبي” لم يعلن تفاصيل الحادث، فيما تداول إعلاميون يتبعون الفصائل آنذاك، أنباءً عن عدم سقوط أي ضحايا.
وأُغلقت بلدة جرف الصخر (تزيد مساحتها على 50 كيلومتراً مربعاً)، منذ ما يقرب من 10 سنوات بقرار من فصائل مسلحة حليفة لإيران، وهي تُعتبر معقل عشيرة الجنابيين العربية في العراق إلى جانب عشائر أخرى، ما زال سكانها البالغ عددهم نحو 180 ألف نسمة مُهجّرين في مخيمات ومعسكرات نزوح. وعلى الرغم من وعود متكررة لحكومات حيدر العبادي، وعادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، بإعادتهم، إلا أن أياً منها لم يتحقق.
وتخضع المدينة منذ استعادة القوات العراقية السيطرة عليها في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2014، لسلطة الفصائل المسلحة الحليفة لإيران. وانسحبت وحدات الجيش والشرطة منها بطلب من تلك الفصائل بعد أيام من السيطرة عليها، ولم تعد إليها حتى الآن، ولم تتمكن من دخولها أيضاً. وكان رئيس مجلس النواب العراقي السابق محمد الحلبوسي، قد أكد في مقابلة إعلامية أن “جرف الصخر الآن معسكر للفصائل المسلحة، ولا أحد قادر على دخولها”. كذلك، أشار رئيس الحكومة العراقية الأسبق إياد علاوي، في تصريحات متلفزة، إلى أن “جرف الصخر أصبحت مستقلة فيها معامل ومصانع ومعتقلات”. وكانت هذه التعليقات تثير جماعات الفصائل المسلحة، حتى إنها شنّت هجمات إعلامية على كل من يتحدث بخصوص جرف الصخر، معتبرة إياها منطقة تشكّل تهديداً أمنياً، ولا بد من حمايتها وعدم السماح للنازحين منها بالعودة إليها.
وقال المحلل السياسي المقرب من تحالف “الإطار التنسيقي”، عائد الهلالي، إن “الأميركيين يريدون أن يتحدثوا عن أي نصر كان، حتى لو كان وهمياً، من خلال قصف مقرات الحشد الشعبي في منطقة جرف الصخر أو غيرها، وتبرير هذه الأفعال على أنها طريقة لمنع هجمات مستقبلية”. وأكد، لـ”العربي الجديد”، أن “الحشد الشعبي خاضع لأوامر رئيس الحكومة، ولا يملك أي علاقات مشبوهة، بالتالي فإن الحديث عن مصانع أو معامل وهمية غير حقيقي، حتى إن وجود أي مستشارين له، هو بعلم الدولة أيضاً”.
تحويل جرف الصخر إلى مركز قيادة
بدوره، أشار أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا مهند سلوم، إلى أن “جماعات محور المقاومة كما تُسمى، حوّلت بلدة جرف الصخر إلى مركز تدريب وتوجيه وقيادة وسيطرة وربما تصنيع أسلحة متوسطة وتجميع مسيّرات تُصنّع في إيران”، مبيناً لـ”العربي الجديد” أن “واشنطن تراقب المنطقة دورياً، وتتدخل عندما تعتقد بوجود خطر يهدد قواتها في العراق”.
وقال إن “الهجمات الأخيرة على قاعدة عين الأسد لم تخرج من منطقة جرف الصخر، وجاءت رداً على هجوم أميركي سابق تسبب بمقتل قائد في مليشيا الحوثيين اليمنية. وبحسب المعلومات، فإن المنطقة تحوّلت إلى مركز للتدريب والتأهيل تستقبل مقاتلين وقيادات من مليشيات محور المقاومة المختلفة في اليمن والبحرين وسورية ولبنان، فيما الحكومة العراقية في موقف محرج، فهي خارج محور المقاومة رسمياً”. ولفت إلى أن “الحكومة لا يمكنها مواجهة المحور، لكونه يمتلك قوة مسلحة تضاهي الجيش العراقي، أو هي أقوى منه، ولا يمكنها أن تستعدي الولايات المتحدة التي تُحكم السيطرة على الاقتصاد العراقي ومقبولية العراق في النظام الدولي. لهذا تستمر الحكومة العراقية بإصدار بيانات تؤكد أنها ترفض ضربات المليشيات، وفي الوقت نفسه ترفض رد الفعل الأميركي أو الضربات الاستباقية”.