تراجعت طموحات الحكومة العراقية المشكّلة من قبل الأحزاب والفصائل الشيعية المنضوية في الإطار التنسيقي، من تحقيق وعودها الكبيرة بإطلاق التنمية والتغلب على مشكلات الفقر والبطالة وتردّي الخدمات، إلى مجرّد تجاوز سلسلة الأزمات والمشاكل التي تفجّرت بوجهها دفعة واحدة، وذلك درءا لانهيارها بما يشكلّه ذلك من خطر على البلاد وعلى النظام الذي تقوده تلك الأحزاب والفصائل. ووجّه رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي ما يشبه النداء العاجل إلى القوى السياسية للتعاون لمنع “أي انهيار قد يتعرض له العراق”.
وجاء نداء المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون والعضو البارز في الإطار التنسيقي على خلفية التوتّرات السياسية الحادّة التي أعقبت الكشف عن وجود شبكة تجسّس على السياسيين والبرلمانيين يديرها موظفون من الدائرة القريبة من رئيس الحكومة محمّد شياع السوداني، وكذلك تطورات ما يعرف بسرقة القرن المتمثلة بعملية اختلاس ضخمة لأموال الأمانات الضريبية والتي تطورت إلى صراع داخل منظومة القضاء بعد أن ثارت شكوك في ضلوع مسؤولين كبار في الدولة بمختلف سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية في السرقة التي نسفت من الأساس وعود حكومة الإطار بمحاربة الفساد وإنهاء ظاهرة نهب المال العام وهدره.
وبالإضافة إلى التعقيدات السياسية، لم تعد المؤشرات الاقتصادية والمالية مواتية لتمادي حكومة السوداني في الإنفاق الضخم الذي انخرطت فيه أملا في تحقيق وعودها بتحسين الأوضاع الاجتماعية والخدمية بأقصى سرعة، لكن بشكل غير مدروس جعل ما أطلقته من مشاريع إلى حدّ الآن رهنا للمتغيرات في سوق النفط المصدر الرئيسي للموارد المالية للعراق.
ولن تكون أيّ هزة اقتصادية ومالية قد يشهدها العراق في الأمد المنظور من دون تبعات، ليس فقط على استقرار الحكومة، لكن أيضا على النظام نفسه والذي كان قد نجا سنة 2019 من أكبر انتفاضة شعبية شهدتها البلاد منذ قيام ذلك النظام سنة 2003 وفجّرها شبّان غاضبون من الفساد الحكومي والفقر والبطالة وتردّي الخدمات، وانطلقت شرارتها من معاقل الأحزاب الشيعية الحاكمة.
وحذّر مظهر صالح المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي من أن بلاده قد تواجه أزمة في تمويل موازنتها لسنة 2025 بسبب انخفاض أسعار النفط. وقال في مقابلة مع وكالة رويترز “لا نتوقع مشكلات كبيرة في عام 2024 لكننا نحتاج إلى انضباط مالي أكثر صرامة في عام 2025”.
ويشير صالح بحديثه عن الانضباط إلى ظاهرة الإنفاق غير المدروس والمبالغ فيه والقائم على معادلة بسيطة تقوم على شراء السلم الاجتماعي والتي جسدها تعيين أكثر من نصف مليون موظف جديد في القطاع العام المتخم أصلا بمئات الآلاف من الموظفين الفائضين عن الحاجة، إلى جانب الانطلاق في عملية تحديث للبنية التحتية المتهالكة دون مراعاة لما تتطلبه العملية من غطاء مالي ضخم لن يكون متاحا مع أيّ تراجع تشهده أسعار النفط.
وكان تشكيل الإطار التنسيقي جزءا من محاولات تجاوز الأزمة التي عصفت بوحدة البيت السياسي الشيعي الذي كانت قواه مجتمعة قبل الانتفاضة الشعبية المذكورة تحت راية ما يعرف بالتحالف الوطني لكن الأخير تفكك بسبب اشتداد الصراعات على السلطة داخله.
وتشكّل الإطار إثر الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أكتوبر 2021 وأفرزت تيار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر فائزا بـ73 مقعدا من مجمل مقاعد البرلمان البالغ عددها 329 مقعدا، وبالتالي مؤهلا للحصول على امتياز تشكيل الحكومة.
لكن تحالف عدد من الأحزاب والفصائل الشيعية ضده حال دون ذلك، وأسند تشكيل الحكومة إلى السوداني الذي لم يكن موضع غضب جماهيري باعتباره لم يكن من قيادات الصفّ الأول بينما كان يحظى بسمعة جيّدة من خلال نجاحات نسبية حققها خلال قيادته لعدد من الوزارات أبرزها وزارة الشؤون الاجتماعية في عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.
ويوصف المالكي بأنّه المؤسس الفعلي للإطار التنسيقي وصاحب الفضل في صعود السوداني وتقدّمه إلى واجهة المشهد.
لكنّ المالكي نفسه أصبح جزءا من مشكلة عدم استقرار الحكومة الحالية واستشراء الخلافات داخلها بعد أن أصبح رئيسها يشكّل بالنسبة إليه نواة لمركز قرار وقوة سياسية ناشئة منافسة له على النفوذ ومعرقلة لطموحاته التي قد تشمل عودته لقيادة السلطة التنفيذية.
وعلى هذه الخلفية لم تستبعد مصادر سياسية عراقية أن يكون تحذير المالكي من الانهيار مظهرا لاستغلاله أزمة الحكومة للإجهاز عليها والدفع بسيناريو الانتخابات المبكرة التي كرّر خلال الفترة الأخيرة المطالبة بإجرائها داعيا الحكومة إلى الاستقالة.
وقال زعيم ائتلاف دولة القانون في خطاب متلفز إن “تضافر جهود جميع السلطات يسهم في استقرار العراق وتعزيز مبدأ الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة”.
وأضاف أن “غالبية الدول والحكومات تتعرض إلى أزمات، ولا توجد دولة في العالم لم تمر بأزمات عديدة”. ووصف الحكومة بأنّها “المتصدي الأول لحل الأزمات”، ومستدركا بأنّ “الأزمات العاصفة لا تستطيع مواجهتها بمفردها”.
وتابع بالقول إنّ “الحكومة والقوى السياسية وجميع السلطات كل منها يتحمل مسؤولية مواجهة الأزمات الكبيرة”، مضيفا أنّ على “القضاء أنّ يتحمل مسؤولية تفعيل آلياته وملاحقة كل قضية تحتاج إلى موقف قضائي ضمن السياقات المعتمدة في النظام الديمقراطي”.
وشملت الصراعات السياسية المحتدمة في العراق السلطة القضائية التي تحوّلت قضية سرقة القرن إلى فضيحة تهزّ أركانها وتنسف ما بقي لها من مصداقية، وذلك عندما اتّهم القاضي حيدر حنون الذي يرأس هيئة النزاهة أحد القضاة بالتلاعب في القضية المذكورة التي قال إنّ نطاقها يتجاوز بكثير الأمانات الضريبية وإنّ حجم الأموال المسروقة في نطاقها يفوق بكثير المبلغ المعلن عنه، ملمّحا إلى محاولات للتستّر على الجوانب الأخطر في القضية وعلى المتورّطين الحقيقيين فيها والذين قد لا يكون رجل الأعمال سوى مجرّد “عربة” لنقل الأموال التي استولوا عليها.
وتطرق المالكي أيضا إلى السلطة التشريعية التي تعيش بدورها صراعات محتدمة حالت دون إعادة انتخاب رئيس لمجلس النواب الذي يدار وكالة منذ استبعاد السياسي السني محمد الحلبوسي من المنصب منذ شهر نوفمبر الماضي. واعتبر المالكي إنّ للمجلس دورا في تشريع القوانين والإجراءات التي يجب أن تتخذ من قبل الحكومة، مبينا أن السلطة التنفيذية لها دور كبير وتتحمل الثقل الأكبر في معالجة الأزمات لكنها لن تتمكّن من ذلك إلا بالتعاون مع القضاء والبرلمان.
ويبدو أن زعيم ائتلاف دولة القانون كان يشير إلى شكوى بعض مكونات الإطار التنسيقي من تفرّد السوداني ودائرته الضيقة باتّخاذ بعض القرارات عندما شدّد “على الدور الكبير للأحزاب والقوى الوطنية في إدارة العملية السياسية”، قائلا إنّ “الأحزاب الوطنية الملتزمة هي التي تتحمل المسؤولية وتعمل من أجل صالح الوطن، وهي الشريك الأكبر في دعم عملية الاستقرار والبناء والديمقراطية والتعددية وتجد الحلول للمشكلات الكبيرة”.
وفي إشارة إلى ما يشق صفوف قوى الإطار التنسيقي من خلافات حادّة، قال المالكي إنّ “القوى السياسية إذا فقدت التوافق والاتفاق السياسي في ما بينها على أساس الدستور وتحت سقفه تتحول إلى وسيلة هدم وتعطيل لمسارات العملية السياسية”. وتابع “نؤكد على أهمية دور القوى السياسية والأحزاب والحركات في العمل وفق الدستور بعيدا عن المكاسب الشخصية”، لافتا إلى أنه “يجب أن تتضافر جهود الجميع للتصدي للأزمات ومواجهة أيّ انحراف أو خروج على الأسس والأصول الدستورية”.
وبلغ رئيس الوزراء الأسبق بتحذيره حدّ الحديث عن سيناريو انهيار البلد، داعيا إلى “تضافر جهود القوى السياسية وتعاونها وانسجامها لمنع أيّ انهيار قد يتعرض له العراق”.
وتحذّر أوساط سياسية عراقية من أنّ تفكك الحكومة العراقية وحلّها في هذا الظرف بالذات سيقود البلاد إلى حالة فراغ قد تطول نظرا لما ظهر خلال العديد من المحطات السياسية والمناسبات الانتخابية من صعوبات في إعادة تشكيل الحكومات واختيار من يقودها بسبب صراعات القوى الطامحة إلى حكم البلد والطامعة في ما ينطوي عليه ذلك من مكاسب سياسية ومادية كبيرة.
العرب