حجبت التقلبات العاصفة التي شهدها الجوار الإقليمي للعراق مؤخّرا الخلافات بين أبرز الفرقاء السياسيين الشيعة المشتركين في حكم البلاد، وأطلقت موجة من التواصل والتشاور بينهم عكست مخاوفهم المشتركة من تداعيات تلك التقلبات على استقرار النظام السياسي في البلد، والذي تقوده بشكل رئيسي أحزابهم وفصائلهم المسلّحة.
ولخّص لقاء جمع رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني ورئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، الذي تحوّل خلال الفترة الماضية إلى ألد خصم سياسي للسوداني وحكومته، حجم القلق داخل العائلة السياسية الشيعية العراقية ومدى استعداد أقطابها لتجاوز خلافاتهم الآنية خدمة لمصلحة أهمّ للجميع تتمثّل في الحفاظ على تماسك النظام وإبعاد شبح السقوط عنه على غرار ما حدث في سوريا المجاورة.
وحمل انهيار حزب الله في لبنان وسقوط نظام آل الأسد في سوريا تحذيرا للأحزاب والميليشيات الشيعية في العراق من إمكانية أن تشملها المتغيرات على طريقة مفعول أحجار الدومينو باعتبارها جزءا من المحور الذي تقوده إيران في المنطقة.
وما زاد من حرج موقف تلك القوى أنّ ما حدث في سوريا ولبنان تزامن مع اقتراب تسلّم إدارة أميركية جديدة لمقاليد السلطة في الولايات المتحدة بقيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الذي يتوقّع أغلب الملاحظين أن يكون أكثر تشدّدا من سلفه جو بايدن إزاء بغداد وأن يمارس عليها ضغوطا شديدة لتقليص ارتباطاتها السياسية والاقتصادية بطهران ولتحجيم دور الميليشيات في المشهد السياسي وخصوصا الأمني في البلد.
وبالنظر إلى ما مارسه المالكي على مدى الأشهر الماضية من ضغوط على حكومة السوداني بهدف دفعها إلى الاستقالة قبل نهاية فترتها القانونية وتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة وذلك سعيا لمنع رئيسها من الحصول على ولاية ثانية، مثّل اللقاء الذي جمع بين الرجلين حدثا في نظر متابعي الشأن العراقي خصوصا وأنّهما لم يلتقيا في اجتماع خاص منذ صيف سنة 2023 على الرغم من أنهما يتشاركان في عضوية الإطار التنسيقي الشيعي المشكّل للحكومة.
وتمّ اللقاء في مكتب المالكي الذي يتزعم ائتلاف دولة القانون وخُصص لبحث جهود العراق في منع انتشار الصراع بالمنطقة وتداعياته على العراق، بحسب وسائل إعلام محلية.
وقال المكتب الإعلامي للمالكي في بيان “جرى خلال اللقاء بحث الأوضاع العامة في البلاد والتطورات التي تشهدها المنطقة وتداعياتها على العراق.”
وأضاف “أكّد الجانبان على ضرورة تجنيب البلاد تبعات الصراعات الإقليمية من خلال تعزيز آليات التنسيق المشترك وتوحيد الجهود مع جميع القوى الوطنية لترسيخ الأمن والاستقرار في البلاد.”
ومن الجانب الحكومي جاء في بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء أنه “جرى خلال اللقاء بحث الأوضاع العامة في البلاد وما حققته الحكومة من تقدم على مستوى تنفيذ مستهدفات برنامجها الحكومي لاسيما المتعلق منها بتأمين احتياجات المواطنين والسعي إلى تطوير الخدمات والارتقاء بالواقع الاقتصادي للبلاد بما يحقق التنمية الشاملة.”
وتابع البيان أن “اللقاء شهد أيضا البحث في أبرز التحديات التي تواجه العراق وأهمية تضافر جهود الجميع من أجل التصدي لها في ظل ما تشهده المنطقة من أحداث خصوصا في سوريا.”
وأكد الجانبان، وفقا للبيان ذاته، على “الموقف العراقي الثابت الداعم لوحدة الأراضي السورية واحترام خيارات شعبها، وضرورة استمرار التحرك الدولي والإقليمي لإيقاف العدوان على غزّة، وترسيخ الاستقرار في لبنان، وجهود العراق في منع انتشار الصراع بالمنطقة.”
ولم يكن لقاء المالكي – السوداني المظهر الوحيد للتواصل بين القيادات الشيعية العراقية منذ سقوط نظام الأسد، حيث شهدت الساحة زخما من الاجتماعات والمشاورات التي برزت خلالها حالة من الوفاق بشأن تهدئة الصراعات البينية وتجاوز الملفات الخلافية وتوجيه الجهود نحو منع عبور تداعيات الوضع في سوريا للحدود باتجاه العراق، إنْ على الصعيد الأمني أو السياسي.
ويبدو أنّ التطورات الإقليمية لم تخل من وجه إيجابي لحكومة السوداني التي كانت لفترة قريبة تتعرّض لضغوط من داخل الإطار التنسيقي المشكّل لها، والذي برز من بين مكوناته قطب معارض لها ومطالب بإقالتها بزعامة المالكي.
ويظهر لقاء زعيم دولة القانون برئيس مجلس الوزراء انقلابا في الصورة؛ حيث أصبح الحفاظ على تماسك الحكومة والاصطفاف خلفها مطلبا لدعاة إنهاء ولايتها قبل موعدها القانوني.
وواجهت الحكومة العراقية على مدى الفترة الماضية سلسلة من التعقيدات جعلت من بقائها هدفا بحدّ ذاته حيث توالى تفجر فضائح الفساد وكثرت التسريبات وتهم التجسس من قبل أعضاء داخلها على سياسيين وأعضاء في البرلمان.
وحاول المالكي الممتعض من الصعود السياسي لرئيس الوزراء استثمار الوضع ووجه دعوات صريحة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في نطاق سعيه لمنع السوداني من وضع أرضية لتجديد ولايته على رأس الحكومة، وذلك في ظل حديث متداول داخل الأوساط السياسية العراقية بشأن وجود طموح لزعيم دولة القانون للعودة إلى المنصب التنفيذي الأهم في الدولة بعد أن كان قد شغله في السابق لفترتين متتاليتين.
وجعلت هزيمة حزب الله وسقوط نظام الأسد وانكماش نفوذ إيران في المنطقة الوضع في العراق تحت مجهر الملاحظة الأميركية وخصوصا ما يتعلّق بنفوذ الميليشيات المسلحة ومشاركتها في إدارة الشأن السياسي والأمني.
وبعد رواج تسريبات بشأن مطالب أميركية لبغداد تتعلق بأوضاع تلك الميليشيات، جاءت تأكيدات رسمية عراقية بخصوص تلك المطالب.
وقال رئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني، الاثنين، إن الرئيس الأميركي المنتخب ترامب أكد لرئيس الوزراء العراقي ضرورة حصر السلاح بيد الدولة.
ويمثّل وجود ترامب على رأس الإدارة الأميركية مصدر تهديد مباشر للقوى الشيعية العراقية وخصوصا الفصائل المسلّحة؛ وذلك استنادا إلى سابقة بارزة تمثّلت في قيام الرئيس نفسه خلال ولايته الأولى بتوجيه أمر بقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني والقيادي البارز في الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس بضربة جوية أميركية قرب مطار بغداد الدولي مطلع سنة 2020.
وأشار المشهداني إلى أن الحكومة بصدد الاستجابة لطلب ترامب، موضّحا أنّ الفصائل وافقت على وقف الهجمات ضدّ القوات الأميركية المتمركزة في العراق.
ويمثّل ذلك مظهرا آخر من مظاهر اتباع القوى الشيعية القائدة للنظام العراقي بمختلف فروعها السياسية والأمنية لسياسة الانحناء للعاصفة الإقليمية حماية للنظام من مصير حليفه السوري.
العرب