بات التنمر في المدارس العراقية ظاهرة مقلقة ومتنامية تؤثر سلبا على الطلاب والمجتمع ككل، حيث يتخذ أشكالا متعددة، منها اللفظي والجسدي والنفسي والإلكتروني، ويترك آثارا مدمرة على الضحايا، مثل تدني الثقة بالنفس والقلق والاكتئاب وحتى الانتحار في بعض الحالات أو ترك المدرسة نهائيا.
وتعج مختلف مدارس العاصمة العراقية بغداد بعبارات السخرية والاستهزاء والتنمر بين الطلاب، ووصل الأمر عند البعض إلى التنمر على أساتذتهم.
وفي بعض الأحيان يسهم الكادر التدريسي بإطلاق عبارات التنمر على الطلبة والتلاميذ بشكل مباشر، أو من خلال إلقاء الدروس بطريقة تهكمية تمنع مشاركة وتفاعل الطلبة.
وأثارت حادثة تنمر تعرض لها طالب في المرحلة الثانوية من قبل مدير مدرسة الشهر الماضي، موجة غضب في مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد، قبل أن تعلن الحكومة العراقية تدخلها والتحقيق في الشكوى.
وظهر الطالب محمد طه مسعود جاسم في مقطع فيديو ليروي تفاصيل ما تعرض له في إحدى مدارس محافظة ديالى خلال تأديته لامتحان فيها، حيث سخر منه مدير المركز الامتحاني.
وقال الشاب إن مدير المركز الامتحاني في إعدادية المعارف للبنين سخر منه ومن كرسيه المتحرك، وقال له متهكما إن كان يسعى ليصبح وزيرا أو رئيس حكومة.
ووجد الطالب تعاطفا واسعا من قبل مواطنيه ومطالب بمحاسبة المدير المسؤول بعد التحقيق في الحادثة المثيرة للغضب. وأدانت مستشارة رئيس مجلس الوزراء لشؤون الحماية الاجتماعية، وذوي الإعاقة، سناء محمد الموسوي الحادثة.
وقالت الموسوي في بيان “نطالب وزارة التربية والمديرية العامة لتربية محافظة ديالى بمتابعة الحالة وفتح تحقيق عاجل لمعرفة ملابسات القضية وكشفها للرأي العام ومحاسبة المقصرين”.
وأشارت الموسوي التي نشرت فيديو شكوى الشاب على حسابها في فيسبوك، إلى أن رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني وجه في وقت سابق “الوزارات كافة بتقديم المساعدة لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة خلال مراجعاتهم ومعاقبة من يقوم بالتنمر على هذه الشريحة.”
وتواجه وزارة التربية وبشكل يومي العشرات من الشكاوى بهذا الشأن ترد من مدارس الكرخ والرصافة، دون أن تكون للوزارة قوانين حديثة تتعامل بها مع هذه الظاهرة الغريبة والطارئة.
وأوضح المتحدث باسم وزارة التربية كريم السيد أن “الوزارة تولي اهتماما كبيرا لظاهرة التنمر في جميع مدارس العراق.” وأشار إلى أن “هذا الموضوع هو من أهم المواضيع التي تشغل وزارة التربية التي توجه سنويا توصيات بخصوص مراعاة حسن التعامل في المدارس ومراعاة الجوانب الاعتبارية بين الطلبة والمعلمين والمدرسين وبالعكس.”
ولفت السيد إلى أن وزارة التربية تشدد على مراعاة الطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة عبر كتب رسمية توجه إلى إدارات المدارس، فضلا عن دور الإشراف التربوي بمتابعة هذه الحالات خلال الزيارة الميدانية للمشرفين لتقييم واقع المدارس وتلقي الشكاوى الخاصة بهذا الشأن.
وأكد أن وظيفة الإرشاد التربوي وظيفة اجتماعية داخل المدارس تهدف إلى التعرف على مشاكل الطلبة والعمل على حلها، وأن الوزارة تعمل بشكل دائم على معالجة هذا الملف بمختلف الأدوات والوسائل بغية القضاء أو الحد من جميع الحالات التي من شأنها أن تصيب الطلبة أو الأساتذة بالضرر والقلق وتعرضهم لضغوط نفسية.
ويعود شيوع هذه الظاهرة إلى انتشار مقاطع السخرية على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، وإلى عدم وجود ضوابط أسرية وتربوية تحفز الطلبة على عدم استخدام مفردات غير لائقة بحق زملائهم وأساتذتهم، فيما يسهم غياب القوانين الرادعة في تفاقم تلك الظاهرة وانتشارها في العديد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والإعدادية بشكل لم يكن مألوفا في المدارس العراقية سابقا.
وترجع الدراسات أسباب ظهور التنّمر في المدارس إلى التغيّرات التي حدثت في المجتمعات الإنسانية، والمرتبطة أساسا بظهور العنف والتمييز بكل أنواعه، واختلال العلاقات الأسرية في المجتمع، وتأثير الإعلام على المراهقين في المراحل المتوسطة والثانوية، وكثرة المهاجرين الفقراء الذين يسكنون الأحياء الفقيرة وعدم قدرة أهل هؤلاء الطلبة المتنمّرين على ضبط سلوكياتهم.
وفي الكثير من الأحيان، ينحدر المتنمرون من الأوساط الفقيرة ومن العائلات التي تعيش في المناطق المحرومة، أو ما يسمى أحزمة الفقر وتعاني من مشكلات اقتصادية في ظل وضع سوسيولوجي يتسم باتساع الهوة والفوارق بين الطبقات الاجتماعية.
ومن الناحية السيكولوجية عادة ما يكون المتنمرون، وخصوصا القادة منهم، ذوي شخصيات قوية ومن الشخصيات السيكوباثية المضادة للمجتمع، وتكمن خطورة هذا النوع في إمكانية تحوله خارج المدرسة إلى مشروع مجرم يهدد استقرار المجتمع، إذ غالبا ما يؤسس المتنمرون عصابات إجرامية أو ينضمون إلى عصابات إجرامية قائمة.
ويمكن أن يلجأ الطفل إلى العنف نتيجة مرضه واضطراباته السلوكية التي تحتاج إلى علاج وتدخّل من أشخاص مهنيين، مثل الأطباء النفسيين المختصين في الطب النفسي للأطفال أو الاختصاصيين النفسيين أو المرشدين في المدارس. فأحيانا تعود أسباب التنمر إلى اضطرابات نفسية قد تحتاج إلى علاج دوائي وهذا بالطبع يكون بعد أن يتم الكشف من قِبل طبيب نفسي ومن الأهمية أن يكون هذا الطبيب مختصا في الطب النفسي للأطفال.
وللأسرة دور مهم في هذا الأمر، إذ يميل بعضها في المجتمعات المعاصرة إلى تلبية الاحتياجات المادية للأبناء من مسكن وملبس ومأكل وتعليم جيد وترفيه، مقابل إهمال الدور الأهم الواجب عليهم بالنسبة للطفل أو الشاب، ألا وهو المتابعة التربوية وتقويم السلوك وتعديل الصفات السيئة والتربية الحسنة.
وقد يحدث هذا نتيجة انشغال الأب أو الأم أو كلاهما عن تربية أبنائهما ومتابعتهم، مع إلقاء المسؤولية على غيرهم من المدرسين أو المربيات في البيوت. إلى جانب الإهمال، يعد العنف الأسري من أهم أسباب التنمر، فالطفل الذي ينشأ في جو أسري عنيف سواء بين الزوجين أو تجاه الأبناء أو الخدم، لا بد أن يتأثر بما شاهده أو مورس عليه.
ويعد تسلط الأقران في المدارس نوعا من أنواع التنمر الذي يحدث في البيئات التعليمية إذا ما اشتمل على العدائية والمضايقة والاستفزاز وهو أمر يحدث باستمرار، وتترتب عليه تأثيرات واسعة على الطلاب، منها الغضب والاكتئاب والتوتر والانتحار أو الإصابة باضطرابات اجتماعية مختلفة.
وأسهمت ظاهرة التنمر بترك أعداد من الطلبة والتلاميذ مقاعدهم الدراسية لتجنب زملائهم الذي يسخرون منهم ويطلقون عليهم عبارات صادمة، كما يؤثر التنمر على التحصيل الدراسي إذ ينعكس سلبا على تركيز الطلاب وقدرتهم على التعلم.
ويعاني الضحايا من القلق والاكتئاب والخوف والوحدة، ومشاكل اجتماعية حيث يميل الضحايا إلى الانعزال وتجنب التفاعل مع الآخرين، بالإضافة إلى مشاكل صحية وجسدية ونفسية.
وحصلت إحدى حالات التنمر بمنطقة بسماية والتي كان كادرها التدريسي يتنمر على أحد التلاميذ وحاولت والدته حمايته من خلال عمل انتساب له ليدرس فيه من البيت بدل الذهاب إلى المدرسة، وقام هذا الطالب بعد ذلك بترك الدراسة وأصبح عنيفا وعدوانيا.
وثمة حالة أخرى لطالب عاجز عن المشي بشكل طبيعي، وقام بشنق نفسه بسبب تنمر زملاء الدراسة عليه، بينما تعرضت فتاة متفوقة في الرابع الإعدادي إلى التنمر وهو ما جعلها تفقد الثقة بنفسها، حيث لجأت هذه الفتاة إلى عمل تنسيب، وحين سألتها الباحثة عن السبب أجابت بأنها لا تستطيع مواجهة المجتمع ولا تستطيع المجيء للمدرسة لإحساسها بأن الطالبات والمدرسين ينظرون إليها نظرة دونية.
وتروي والدة أحد التلاميذ في منطقة بغداد الجديدة أن ابنها تعرض للتنمر في مدرسته من قبل أقرانه، ولجأت إلى تقديم شكوى إلى إدارة مدرسته دون جدوى، لأن زملاءه يتنمرون عليه داخل الصف وأحيانا يتربصون به عند انتهاء الدوام.
وأشارت الأم في حديث لوكالة شفق نيوز المحلية إلى أن ابنها البالغ من العمر 14 عاما ترك مدرسته عاما واحدا بسبب الضغط الذي يتعرض له من زملائه في المدرسة، وتم نقله إلى مدرسة أخرى مع بدء العام الدراسي للتخلص من التنمر، لكن حالته النفسية مازالت غير طبيعية، إذ غالبا ما يفقد التركيز ويصاب بالذهول.
ومثل هذا الصبي توجد أعداد كبيرة بمختلف مدارس بغداد وقعوا تحت تأثير التنمر وأصيبوا بخيبات وأمراض مختلفة.
وقال حسن جبار حسن، مدير مدرسة في منطقة الحرية، “لا يمكن إيقاف التنمر بين الطلاب والتلاميذ أو السيطرة على هذه الظاهرة.”
وأكد عدم وجود ضوابط تسمح لإدارات المدارس باتخاذ إجراءات مناسبة، موضحا أن “إدارة المدرسة ليس بوسعها سوى عقد اجتماعات مع أولياء الطلبة وتشخص الأبناء المتنمرين وتطلب منهم المساعدة والتعاون معها في منع أبنائهم من التنمر على أقرانهم.”
وأضاف “قد تلجأ الإدارة أيضا إلى توجيه إنذارات للطلبة المتنمرين بالفصل وتحاول بشتى الوسائل مساعدة الطلبة المتنمر عليهم، إلا أن جميع هذه الحلول عاجزة عن إيقاف هذه الظاهرة بسبب انتشار الوسائل الرقمية دون تحديد لهذه الوسائل بقوانين فاعلة.”
وحددت منظمة اليونسكو يوما دوليا لمكافحة العنف والتنمر في المدارس، بما في ذلك التنمر الإلكتروني، الذي يصادف السابع من نوفمبر، ودعت إلى تكثيف الجهود لحماية الطلاب من جميع أشكال العنف الجسدي واللفظي والنفسي، الذي يهدد بيئتهم التعليمية ويؤثر على صحتهم النفسية، وشددت في تقرير لها على ضرورة تعزيز حماية الطلاب من ظاهرة التنمر.
ويرى علي محسن ياس العامري، رئيس قسم الإرشاد النفسي والتوجيه التربوي بكلية التربية الأساسية في الجامعة المستنصرية، أن حالات التنمر بين التلاميذ تحدث بسبب الضغط النفسي الشديد الذي يعاني منه التلميذ وبسبب أساليب التنشئة الأسرية القائمة على العنف الجسدي أو النفسي ما يدفع التلميذ إلى تفريغ الشحنات الانفعالية في المدرسة واستخدام العنف ضد زملائه التلاميذ فضلا عن استخدام المعلم أساليب قمعية تسلطية داخل قاعة الدرس، وهو ما يؤدي إلى النفور في استيعاب المادة الدراسية وكره المعلم والمدرسة وتفريغ الشحنات الانفعالية والغضب على زملائه التلاميذ.”
وأضاف العامري أن “هناك العديد من المشاكل في بعض المدارس ولاسيما في المناطق الشعبية المكتظة بالسكان وازدحام المدارس بالتلاميذ.”
وأشار إلى أن عدد الطلبة يصل إلى 1000 طالب في بعض المدارس، ونحو 80 تلميذا في الصف الدراسي الواحد، ويرافق ذلك استخدام طرائق التدريس القديمة والأساليب المتذبذبة بين الشدة المفرطة وبين التجاهل، وهو ما يدفع بعض الطلبة والتلاميذ إلى التذمر واستخدام التنمر ضد زملائهم أو الهروب من المدرسة.
ولفت إلى “ضرورة تنظيم دورات تدريبية لتطوير مهارات المعلمين الجدد على أحدث أساليب وطرائق التدريس الحديثة، وتعليمهم طريقة الحوار والتعليم التعاوني والتعليم المدمج وطريقة العصف الذهني وغيرها من الطرق التي تؤدي إلى تفاعل الطلبة داخل الصف وتشغلهم عن الأمور الأخرى.”
وهكذا فإن الطفل الذي يتعرض للعنف في الأسرة، يميل إلى ممارسة العنف والتنمّر على الطلبة الأضعف في المدرسة، كذلك الحماية الزائدة عن الحد تعوق نضج الأطفال وقد تظهر لديهم أنواعا من الفوبيا كفوبيا المدرسة والأماكن المفتوحة لاعتمادهم الدائم على الوالدين، فالحماية الأبوية الزائدة تقلل من شأن الطفل وتضعف من ثقته بنفسه وتشعره بعدم الكفاءة.