يدور في العراق جدل سياسي حادّ حول طبيعة ومستقبل العلاقات مع الجارة سوريا تحت حكم النظام الجديد المقرّب من تركيا والذي قام على أنقاض نظام آل الأسد الحليف لإيران وبالنتيجة لقوى سياسية قائدة للنظام العراقي وحليفة بدورها لطهران.
وأذكى الجدلَ التحرّكُ الإيجابي صوب دمشق من قبل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي حسم الموقف بشأن دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى القمّة العربية القادمة في بغداد كما التقى الشرع في العاصمة القطرية الدوحة.
ويأتي الجدل بشأن العلاقة مع سوريا في فترة المسير نحو الانتخابات البرلمانية المقررة في العراق لشهر نوفمبر القادم، ما يوفّر للقوى السياسية موضوعا انتخابيا دسما وورقة دعائية لمخاطبة الأنصار ودغدغة مشاعرهم والضغط على الخصوم والمنافسين الذين يأتي في مقدمتهم السوداني نفسه.
وهاجم حزب الدعوة الإسلامية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي السوداني بشدّة لقراره دعوة الشرع إلى القمّة بينما لوّحت ميليشيا عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي باعتقال الشرع في حال قدومه إلى بغداد كونه بحسب الميليشيا محلّ ملاحقة من قبل القضاء العراقي باعتباره قياديا سابقا في جبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة.
وبالتوازي مع التقدّم نحو الموعد الانتخابي المهمّ برز المالكي كمنافس رئيسي للسوداني الذي كشف عن سعيه للحصول على ولاية ثانية على رأس الحكومة بإعلانه نيته الترشّح للانتخابات مستندا إلى رصيده الذي يوصف بالمقبول خلال ولايته التي توشك على الانتهاء.
ويحسب التبدّل الملحوظ في وجهة السياسة الخارجية للعراق ضمن رصيد السوداني الذي قطعت حكومته خطوات هامة في التقليص من حدّة الارتهان بالعلاقة مع الجارة الشرقية إيران والانفتاح بدرجة أكبر على باقي دول الإقليم بما في ذلك تركيا ودول الخليج ومعظم البلدان العربية.
ويعني إصرار السوداني على إقامة علاقات جيدة مع سوريا بغض النظر عن طبيعة نظامها، جدّيته ومثابرته في سعيه لإضفاء التوازن على العلاقات الإقليمية للعراق والالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للجيران واتّخاذ المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة معهم مقياسا رئيسيا للعلاقة مع دولهم.
ولا يخلو إبراز هذا التوجّه في الفترة الحالية من منافع انتخابية للسوداني إذ أنّ تحسين العلاقات مع المحيط الإقليمي وتقليص حدّة التأثيرات الإيرانية يلاقيان ترحيب شرائح واسعة من العراقيين الممتعضين من سياسات طهران تجاه بلدهم ومن تصرفات الأذرع الإيرانية في البلد من أحزاب وميليشيات شيعية مسلحة والأثر السلبي لتلك السياسات والتصرفات على استقرار العراق وتنميته ومستوى رفاه مجتمعه.
ويجد مناهضو سياسة الانفتاح على سوريا التي تنتهجها الحكومة في ماضي الرئيس السوري، المعروف عندما كان قياديا بجبهة النصرة بكنية أبي محمّد الجولاني، ذريعة مناسبة للهجوم على السوداني وبعض أركان حكومته وخصوصا وزارة الخارجية بقيادة السياسي الكردي المعتدل فؤاد حسين، من منطلق أن الحكومة متسامحة مع “الإرهاب” ومتساهلة في أمن البلد.
وقال حزب الدعوة في بيان أصدره الأحد، تعليقا على قرار دعوة الشرع إلى القمّة العربية، إن “دماء العراقيين ليست رخيصة،” معتبرا أنّ “العراق يتطلع إلى القمة العربية في بغداد وأن تكون نقلة نوعية في مسار العمل العربي المشترك ومواجهة التحديات العاصفة وأن ترتقي مخرجاتها إلى مستوى ما تترقبه الشعوب العربية من سواحل المحيط الأطلسي إلى ضفاف الخليج، ولاسيما في نصرة القضية الفلسطينية، وإنهاء معاناة شعب غزة ومأساته المستمرة.”
وأوضح الحزب في بيانه “في الوقت الذي ندرك فيه أن من مستلزمات ميثاق جامعة الدول العربية والالتزام بأعرافها دعوة جميع الدول بلا استثناء، لا بد من مراعاة خلو السجل القضائي العراقي أو الدولي من التهم أو الجنايات لمن يشترك في أعمال القمة العربية على أي مستوى من مستوياتها وهذا ما ينص عليه القانون الدولي إذ أن دماء العراقيين ليست رخيصة حتى يُدعى إلى بغداد من استباحها، واعتدى على حرماتهم أو أن يرحب بمن تورط بجرائم موثقة بحقهم،” في إشارة إلى الشرع.
وتعمّد الحزب الدفع بإثارة الرأي العام العراقي ضد الرئيس السوري إلى أقصاه وأيضا ضد رئيس الوزراء الذي قرّر دعوته إلى القمّة وجلس معه على طاولة الحوار في الدوحة وذلك عبر مقارنة الشرع برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي أشار البيان إلى أنّه “لا يمكنه الزيارة أو المرور بالعديد من الدول الأوروبية بسبب حكم المحكمة الجنائية الدولية الصادر بحقه وقد رفضت حكومات وعواصم استقباله مراعاة لمشاعر شعوبها والتزاما بالحكم القضائي الدولي.”
وشدّد على أنّ “هذا ما يجب فعله في العراق أيضا، تجاه من تورطوا بجرائم فظيعة ضد أبنائه، مهما كانت المبررات، احتراما للدم العراقي ووفاء للشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل عزة الوطن وكرامته.”
وانخرط في المزايدة على السوداني وسياسته تجاه سوريا زعيمُ عصائب أهل الحق قيس الخزعلي على الرغم مما بينه وبين المالكي من خلافات عميقة وتنافس شرس على المكانة والنفوذ.
وقال الخزعلي، الذي يوصف بكونه أحد الحرّاس الأشدّاء للنفوذ الإيراني في العراق بسبب ولائه لإيران وعلاقاته الواسعة مع حرسها الثوري، إنّ “حضور رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع إلى بغداد سابق لأوانه،” محذرّا في تعليق عبر منصة إكس من أنّ ذلك “يؤدي إلى تداعيات إذا تم تطبيق القانون واعتقاله نظرا لوجود مذكرة اعتقال نافذة بحقّه،” ومضيفا أنّه “عملا بمبدأ فصل السلطات يجب الالتزام بقرارات القضاء العراقي واحترامها من الجميع.”
ومن الزاوية ذاتها هاجم تحالف الفتح الوعاء السياسي والبرلماني لميليشيات الحشد الشعبي دعوة الشرع إلى القمّة وشمل بانتقاداته الحادّة الشخصيات والقوى الداعمة لذلك.
وقال على لسان نائبته في البرلمان انتصار الجزائري إنّ ترحيب بعض الشخصيات السياسية بزيارة الرئيس السوري الذي تعمّدت تسميته بأبي محمد الجولاني إلى العراق “دعم مكشوف للإرهاب.”
وأضافت في تصريحات لوسائل إعلام مقرّبة من الحشد أنّ “بعض الجهات السياسية تعمل على تبييض صفحة الإرهاب من خلال الترحيب بقيادات إرهابية مطلوبة دوليا مثل أبي محمد الجولاني،” مشيرة بالإسم إلى السياسي السني خميس الخنجر.
وقالت إنّ “الخنجر الذي يفتقد إلى أي شرعية سياسية معروف بدعمه المالي والإعلامي للجماعات الإرهابية التي ارتكبت أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي.”
وغير بعيد عن استخدام ملف العلاقة مع سوريا في الدعاية الانتخابية أظهرت بعض القوى والشخصيات السنية العراقية بدورها اعتراضا على دعوة الشرع إلى القمة العربية، وذلك في إطار مزايدتها على قوى سنية أخرى تعتبرها مقربة من تركيا وقطر حليفتي النظام السوري الجديد.
وقال القيادي في تحالف السيادة مجيد الدليمي إن ّ “القضاء العراقي لم يُسقط التهم الموجهة إلى أحمد الشرع المعروف بالجولاني،” مشددا على أن “استئناف العلاقات مع سوريا لا يعني طيّ صفحة سجله الإرهابي لوجود أوامر قبض صادرة بحقه بموجب المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب.”
واعتبر في تصريحات لوسائل إعلام محلية أنّ “القضاء العراقي مطالب بتحريك الدعاوى القضائية الصادرة من محاكم بغداد ضد الجولاني على خلفية تورطه في عمليات قتل وتفجير إبان انتمائه إلى تنظيمي القاعدة وداعش داخل العراق، وذلك بغض النظر عن المنصب الذي يشغله حاليا.”
ولا تخلو الساحة العراقية بمستوياتها الشعبية والسياسية من داعمين لسياسة السوداني تجاه سوريا وبلدان الإقليم على وجه العموم.
واعتبرت الناشطة والمحللة السياسية نوال الموسوي أن ما يقوم به السوداني ينسجم مع مصلحة العراق العليا في ظل التحولات المتسارعة بالمنطقة، مشيرة في تصريحات لموقع “كردستان24” إلى أن “سوريا تمثل العمق العراقي وكذلك العراق يمثل العمق الإستراتيجي لسوريا،” بينما رأى الأكاديمي والمحلل السياسي وائل الحازم أن الهجوم على السوداني يدخل في إطار “التسقيط الانتخابي المبكر”، موضّحا أن “القضية لا تتعدى كونها محاولة لتسجيل نقاط انتخابية،” ومؤكدا أن الشعب العراقي “يؤمن بأن ما تقوم به الدولة حاليا من خطوات يصب في مصلحة البلد.”
العرب