كل الحكومات الشيعية التي تولت الحكم في العراق بدعم وإشراف أميركيَّيْن مباشريْن لم تكن لديها خطة تنموية اقتصادية اجتماعية مستدامة لإنهاض البلد وإحداث تغيير في مؤسساته التي ظلت أسيرة التخلف في ظل حكم النظام البعثي لفترة طويلة، فلا هي قدمت خطة خماسية أو عشرية ولا هي طرحت أي مشروع لتطوير البلد بما يواكب التقدم المعاصر وبما يتناغم مع حركة التطور الجارية في دول المنطقة، وكذلك لم تحاول أن تستفيد من الخبرات الأميركية والأوروبية وشركاتها الاستثمارية والتكنولوجية التي فتحت ذراعيها لتقديم خدماتها لها، ولم تحاول القيام بأي محاولة باتجاه صيانة البنية التحتية وتحديثها، والنتيجة أن العراق بعد أكثر من عقدين من إدارتها له لم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام بل ازداد تخلفا وجهلا وتقهقرا إلى الوراء في كل الميادين، وحتى حركة الفنون والثقافة والمسرح والسينما توقفت تماما ولم تقدم أي عمل ذي قيمة إبداعية منذ تولي الأحزاب الشيعية السلطة.
ومن يلاحظ الحالة المزرية التي عليها بغداد والمحافظات الجنوبية من قلة الخدمات ونقص التنمية، وعلى ضوء التقارير التي ترفعها المنظمات الدولية الإنسانية المعنية عن الوضع القائم في العراق، يدرك حجم الدمار الهائل الذي لحق بالبلد والمأساة التي يعيشها العراقيون، حتى دفع بالكثير منهم إلى أن يترحموا على أيام صدام حسين ويستذكروها بحسرة، ولسان حالهم يقول إذا كنا أيام صدام نعيش في حفرة فإننا اليوم نعيش في “دحديرة” الأحزاب الطائفية؛ خرجنا من الدكتاتورية العروبية ودخلنا إلى الدكتاتورية الطائفية!
خطأ الأميركيين القاتل في العراق أنهم نصبوا أشخاصا على الحكم لا خبرة لهم في أمور الدولة وإدارة مؤسساتها وطرق التعامل مع الفسيفساء العراقية. صحيح أنهم كانوا ضمن صفوف المعارضة ولكنهم لا يملكون مواصفات رجل الدولة. تعاملوا مع أصعب المجتمعات وأعقدها في العالم من حيث الديانات والطوائف والإثنيات والثقافات المختلفة والأمزجة المتقلبة بسياسة طائفية تاريخية قاتمة، لم يدركوا أن هذه المجتمعات تختلف بشكل كامل عن كل مجتمعات المنطقة، فلا شيعة العراق مثل شيعة دول المنطقة كونهم مصدر التشيع وأرض الأئمة والمراجع الكبار، ولا أكراده مثل أكراد تركيا وإيران وسوريا من ناحية الثقافة والنضج السياسي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المكون السني الذي يختلف عن سُنّة دول المنطقة من خلال مزج القومية بالدّين.
الحكام الجدد لم يدركوا هذا التميز العراقي ولم يتعاملوا معه وفق هذا الأساس بالشكل المناسب، بل حاولوا “تدجينه” وفرض أجنداتهم عليه تارة بالقوة والقمع وتارة أخرى بالحصار والتجويع، وتارة ثالثة بالدخول في تحالفات كاذبة واتفاقات سياسية آنية غير جادة، سرعان ما يتنصلون منها عندما يستنفدون أغراضهم ويحققون أهدافهم منها.
لم يكن سهلا على السنة والكورد أن يواكبوا العملية السياسية مع هكذا عقلية تنتمي إلى العمق الماضي بكل مآسيه ومساوئه وصراعاته الطائفية. ومن الصعب، إن لم يكن مستحيلا، أن تجمع بين مكونات متناقضة وغير متجانسة تماما لتشكيل الدولة الجديدة، ولكن إرادة الغازي المحتل فرضت على الكل، وتم تشكيل الدولة الجديدة والبرلمان وكتب الدستور وتحولت الدولة إلى “الفيدرالية”، ونصّت المادة 119 من الدستور على أن لكل محافظة أو أكثر الحق في تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، وهو ما رفضه النظام “الديمقراطي” الجديد عندما طالب السنة بتطبيق هذه المادة أسوة بإقليم كوردستان واعتبروا ذلك تمردا على الحكومة، وهم الآن منهمكون في نسف الكيان الكوردي القائم منذ 1992 بكل السبل ومن ثم إعادته إلى الحكم المركزي الطائفي الحديدي، وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف الإستراتيجي مارسوا كل أنواع الضغط السياسي والاقتصادي والعسكري، وهم مستمرون في سعيهم دون كلل تحت سمع ونظر الدولة الغازية الراعية للعملية السياسية العرجاء!